من أدب البنوة
الأدب البنوي ظاهرة أدبية من المنظوم أو المنثور، يتركَّز حول ما دار بين الآباء والأبناء،من الخطب والوصايا، والرسائل والأمثال والحوارات، مجسِّداً الارتباط العاطفي بين الأبوة والبنوة، ويحفل بالأفكار السامية، والمعاني العميقة، فضلاً عن جمال الصياغة وإشراقة التعبير، وقد تتسع دائرة هذا الأدب، ليشمل كلّ ما ورد في البنوة خارج نطاق الأبوة؛ محقِّقاً علاقة الأبوة بالبنوة، في مجال بناء الشخصية الإنسانية، المرتكزة على تمثُّل القيم السامية، التي تؤدِّي إلى مدارج الكمال الإنساني؛ لانبثاق هذا الأدب عن التصور الإسلامي للإنسان والكون والحياة، الأمر الذي يتيح له الانضواء في ثنايا الأدب الإسلامي وخصائصه.
ودراسة الصورة الفنية في أدب البنوة، سوف تتركَّز حول بعض ما ورد من نصوص بنوية في نثر العصرين: الأموي والعباسي الأوَّل؛ نظراً لخصوبة هذين العصرين، سواء على صعيد القيمة الفنية للنصوص النثرية، أم على صعيد الدور الريادي التأسيسي للخلفاء والولاة، والقادة الذين تولوا قيادة هذه الأمَّة، فأسهموا بدورهم في تشكيل الوعي السياسي والتربوي والاجتماعي، للأمَّة الإسلامية، ولا سيما أنَّ معظم النصوص البنوية قد صدرت عن هذه الفئة الرائدة.
قال هشام بن عبدالملك لأولاده في وصيته لهم: "تعلَّموا القرآن والنحو، فإنَّ القرآن بلا نحو كالجسد بلا رأس".
لدى تأمل هذه الصورة لأوَّل وهلة يبدو فيها التباين بين القرآن وعلم النحو؛ فالقرآن كتاب مقدَّس وله مرجعيته التشريعية، ومكانته التعبدية، فضلاً عن كونه الغذاء الروحي للإنسان، وفي الذروة العليا من الفصاحة والبيان، أمَّا النحو فهو علم وضعي، ليس له المرجعية الدينية، أو المكانة التعبدية، فضلاً عن افتقاده للمتعة الروحية.
ومن ثنايا هذا التباين تتجمَّع خيوط الانسجام والتآلف من خلال ما يؤدِّيه الدرس النحوي للفهم القرآني؛ فمقاصد التشريع الحكيم لا تتأتَّى إلا بفقه الحكم النحوي للسياق القرآني، وتلاوته التعبدية لا تستقيم إلاَّ بضبط حروفه، وإعراب آياته.
ومن ناحية أخرى يبدو التآلف بين العِلْمين من خلال أنَّهما يمثِّلان الصدارة بين العلوم الأخرى، فالعلم القرآني يعدُّ رأس العلوم النقلية، وعلم النحو أساس العلوم الوضعية؛ إذ لا تستقيم هذه العلوم تأليفاً وفهماً إلاَّ بضبطهما نحوياً، كما نلحظ التلازم بين العلمين من خلال أثرهما في بناء شخصية الأبناء عقلياً ولغوياً؛ فالقرآن يدعو في الكثير من آياته لشحذ الذهن، وإعمال الفكر، والتدبُّر في ملكوت السماء والأرض، فضلاً عن دوره الحيوي في تقويم الألسنة وفصاحتها وصقل الملكات وبلاغتها.
والنحو من العلوم التي تقوم على الرياضة الذهنية، والمحاكمة العقلية، إلى جانب أنَّه العلم الرئيسي لسلامة التعبير من اللحن والعُجمة.
ومن هناك كان حرص الخليفة بالغاً على تلقي أبنائه ذروة سنام العلوم وأفضلها، للوشائج القوية التي تربط بينهما وبين بناء الشخصية دينياً وعقلياً ولغوياً، فنهضت الصورة من خلال التشبيه بهذا الدور الوظيفي مدعمة بالصيغة التوكيدية، الأمر الذي يفيد أنَّ تعلُّمهما حقٌّ واجب: "فإنَّ القرآن بلا نحو كالجسد بلا رأس".
ومع صورة أخرى من صور الأدب البنوي تطالعنا الصورة التي تشفُّ عن شعور نفسي، وتصوُّر فلسفي تجاه الإنسان والكون والحياة.
يرسم هذه الصورة عبدالله بن شداد لابنه من خلال وصيته له حين حضرته الوفاة: "يابني، إنِّي أرى داعي الموت لا يُقلع، وأرى من مضى لا يرجع، ومن بقي فإليه ينزع".
عبَّر ابن شداد بهذه الصورة عن المعنى الذهني المجرَّد للموت بصورة حسية شاخصة، تمثَّلت بتشخيص ملك الموت بإنسان يدعو النَّاس إلى رحلة الموت والفناء، ومع ديمومة النداء تتواكب ديمومة الرحيل! ومع سرمدية هذه الرحلة الدائبة الخفية بين النداء والرحيل، تبدو ومضة وجدانية تضيء جوانب الوصية؛ مبنية مآل هذه الحياة الدنيوية التي لا خلود فيها، ولا عودة إليها. وكلّ تلك المظاهر والمتع الدنيوية الخلاَّبة أضحت سراباً خادعاً إزاء تلك الحقيقة الوحيدة الثابتة: "الموت والرحيل" معززاً هذه الصورة الفلسفية لمآل الحياة الدنيوية بصياغتها بأفعال "مضارعة" لتحقق آنية الفعل واستمراريته، بل بتجسيدها ماثلة للعيان، لمجيء هذه الأفعال أفعالاً حركية: "يقلع، يرجع، ينزع" لتسهم بجلاء الفكرة وتوضيحها.
وتتابع الأبوة رسم المعايير الفاضلة للشخصية البنوية من خلال صورة أخرى تطوف بها في ميدان الحياة الاجتماعية بمنعطفاتها وثوابتها، قائلاً: "أي بني، وإن سمعت كلمة من حاسد فكن لست بالشاهد، فإنَّك إن أمضيتها حيالها رجع العيب على من قالها، وكان يقال: "الأريب العاقل هو الفطن المتغافل" وكن كما قال حاتم الطائي:
وما من شيمتي شتم ابن عمي وما أنا مخلفٌ من يرتجينــي
وكلمـة حاســـد في غير جـــرم سمعتُ فقلت مُري فلتنفذينـي
وهكذا يغرس الأدب في نفس الابن قيمة من قيم التربية الاجتماعية، التي لا تذكي أوار الفتنة عند حدوثها، بل تخمد جذوتها عند ظهور بصيصها، فالحسد وإن كان وباء المجتمعات منذ الأزل فإنَّ دفعه ليس مستحيلاً، فأخذ الحيطة من الحاسد بالوسائل المشروعة، والإعراض عنه، هو الحلّ الناجع الذي يطفئ شرّ حسده.
ثم يعنى الأب بترسيخ قيمة العفو والتغافل عن المسيء، مع اليقظة والحذر منه، فالعلاقات الاجتماعية تقتضي هذا التوازن بين الفطنة والتغافل، الأمر الذي يلفتنا في هذه الصورة إلى قدرتها على مزج عناصر متعددة في آن واحد، إذ بدت فيها المشابهة، فالمغايرة، ثمَّ المشابهة. فالمشابهة تراءت من خلال تشكل طرفي الصورة من عنصرين ذهنيين "الفطنة والتغافل" ومع ذلك فهما متقابلان من حيث الدلالة، فالفطنة تقابل التغافل، ثمَّ نجد هذا التقابل يأتلف ثانية ضمن الإحساس والشعور ليحقق التوازن في العلاقة الاجتماعية.
وتتابع شخصية الأبوة الخصبة تجوالها في خضم الحياة الاجتماعية من خلال لوحة أخرى، تسلط الضوء فيها على زاوية من زواياها البارزة وهي "الصداقة" موضحة معاييرها وضوابطها، قائلاً: "أي بني، لا تؤاخ امرءاً حتى تعاشره، وتتفقَّد موارده ومصادره، فإذا استطعت العشرة، ورضيت الخبرة فواخه على إقالة العثرة، والمواساة في العسرة، وكن كما قال المقنع الكندي:
ابلُ الرجال إذا أردت إخـاءهـم وتوسـمنَّ فعـالهــم وتفقــــد
فإذا ظفرت بذي اللبابة والتقى فيه اليدين قرير عين فاشدد
وهكذا يسلط الأب ذهن ولده على سنَّة من سنن الفطرة البشرية، والتفاعل الاجتماعي، والأخوة الإسلامية، وهي أن يألف الإنسان ويؤلف، وينشيء علاقات وصداقات تشبع احتياجاته الوجدانية والاجتماعية والعقلية، فيوجه اهتمامه إلى ضوابط هذه الصداقة التي ينبغي أن تكون مبنية على اختيار دقيق، تدرك بها انتماءات الصديق، وأخلاقه، وسلوكه العام، ومن ثمَّ تعقد أواصر هذه الصداقة وفق معايير إسلامية، يراعى فيها التناصح والتسامح، والمؤازرة عند الشدائد، ولمَّا كان عبدالله بن شداد حريصاً على أن يقيم ابنه صداقات متينة، فإنَّ الأمر يقتضي أن يزوِّده بالمقوِّمات التي تصون هذه الصداقة، وذلك من خلال رسم صورة أخرى تنهض بالحفاظ عليها من التداعي والانهيار، قائلاً له: "أي بني، إذا أحببت فلا تفرط، وإذا أبغضت فلا تشطط، فإنَّه قد كان يقال: "أحبب حبيبك هونا ًما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما" وكن كما قال هدبة بن الخشرم العذري:
وأحبب إذا أحـببت حباً مـقاربـــــاً فإنَّك لا تدري متى أنت نـازع
وأبغض إذا أبغضت بغضاً مقاربـاً فإنَّك لا تدري متى أنت راجـع
فالوالد الذي حنكته الأيام يزن الأمور بموازينها، فيرسم علاقة الصداقة والتآخي بميزان الاعتدال والتوسط، وهو بذلك يتأسى بالقول المأثور الذي يضع ضوابط الاعتدال والتوسُّط في تنظيم العلاقات الإنسانية تحسُّباً لردود الفعل التي قد تثيرها سنن التغيير في الطبائع البشري، فقد يصبح الصديق خصماً، ويضحى الخصم صديقاً، والتوسُّط هو القاعدة المثلى للأمور كلها.
ونلحظ في هذه الصورة أيضاً قدرة الأب على التوفيق بين المتناقضات وصهرها في بوتقة المشاعر الإنسانية بحيث يتولَّد عنها التكيف والتكامل. ويبدو لنا أنَّ ابن شداد يُعدُّ سابقاً لغيره في التأليف المطرد بين هذه المتناقضات التي هي سمة واضحة في الفنون الإنسانية على اختلاف أنواعها.
ثمّ تختم الأبوة وصيتها للبنوة بصورة أخرى تعزِّز ما سبقها في مجابهة متطلبات الحياة الاجتماعية، وتنظيم العلاقات الإنسانية، قائلة له: "وعليك بصحبة الأخيار، وصدق الحديث، وإيَّاك وصحبة الأشرار فإنَّه عار، وكن كما قال الشاعر:
اصحب الأخيار وارغب فيهمُ ربّ من صاحبته مثل الجـرب
واصدق النَّـاس إذا حـدثتهم ودع النَّـاس فمـن شــاء كذب".
وفي ختام هذه الوصية قد نعجب من قدرة الأب على توظيف الصور الشعرية توظيفاً فنياً صادقاً، بحيث مثَّلت كلّ صورة جزءاً من التجربة الشعورية، التي تمثَّلت بصورة عضوية نسجت خيوط الوصية، مجسِّدة الآراء والقيم التي تناولت بناء الفرد، وتشكيل شخصيته الإنسانية المتحضرة، في خضم هذا التغير الفكري والاجتماعي واللغوي الذي لامس الحياة العربية الجديدة، فكشف عن دور القيم الإسلامية التي ترقى بالإنسان إلى مدارج الكمال الإنساني.
كما نعجب من شخصية الأبوة الخصبة لإحاطتها بهذا الكمّ الثر من الآراء والتجارب والحكم الشعرية والنثرية، مع بسطها ومحاكمتها محاكمة منطقية، ثمَّ إسنادها لقائليها، وصياغتها في تلك الصور الفنية، التي كانت رمزاً لعلاقة الأبوة بالبنوة، مجسِّدة في ذلك دور الأدب البنوي ووظيفته، بتحقيق تلك الفطرة الإنسانية، بأنَّ البنوة امتداد للأبوة، ومن هنا كان حرص الأبوة على منح البنوة عصارة تجاربها في الحياة، حتى في تلك اللحظات التي أوشكت أن تلقي بها عصا الترحال!
راقت لي