غوغاء الطلقات هدأت من حوله,تتطاير من هنا وهناك همسات من أفواه الماكثين في الحياة, لا أحد يجزم أن تلك المعركة القاسية يمكن أن تنتهي أو تتوقف للحظة, هي أسطر لعينة من السفك و البطش يصعب نقطها لتكف عن جمع الأرواح و الأطراف, لم يستسغ أي طرف فيها نصرًا أو يهضم خسارةً, الكل همه التوقف ليرى مآله, ليراجع حساباته, ليلملم بعضه .... ليستشعر حينه.
ينهض متثاقلا ليسير بين أجسادٍ يحس بتهكمها و سخريتها منه, أجسادٌ لن تعنيها المعارك من الآن فصاعدا, لن يستعبدها جوع و لا عطش, لن تحتار لأمر حرٍّ أو قرٍّ, لن تنتظر رسائلً أو أخبارا من الجبهات, لن تحن إلى وطن, لن تشتاق إلى جسد, و لن تأبه بعد اليوم برحيل الحرب أو مكوثها ........
ينزع خوذته التي ضن للحظة أنها صارت جمجمته, يرميها بعيدا كما رما حبه للبقاء, يواصل سيره بنظرات جوفاء لا يأبه بها عقله, شعوره بات غريزة بقاء فقط, فطنته و ذكائه صارا يشتغلان لبقائه حيا ليوم آخر لا أكثر...
بين تلك كل المتاهات يلتقط أطيط أنفاسٍ و أنينٍ بين كومة الأجساد المتناثرة, ربما هي آخر اللحظات على محطة راحلٍ آخر, يهم بالاستمرار, يتراجع و يدير رأسه ناحية الصوت فتقع عيناه على يد تدور حول معصمها ملوحةً إليه, الجثث متراكمة, يحاول التركيز عله يجد صاحبها, بصره أيضا مشوش و لا يرى بوضوح, يتقدم نحوها بنفس الخطى المتثاقلة و في وجهه جسَّدَ تقاسيمَ تذمُّرٍ من يأسه لوجود ما يغير الأمر, لا يفرق الأمر هنا بين جثة أو جسد مآله جثة بعد حين, يزيل الأجساد المتراكمة عن صاحب المعصم الملوح, يجثو على ركبتيه و يقترب منه, يفاجئه وجه مبتسم رغم ما ناله من الجراح, يتفقد جسمه جيدا, و يعود لذاك الوجه ببصره في صورة أشبه بجراح يخرج صامتا بعد إجراءه عملية فاشلة, لا يأبه الوجه المبتسم لإيحاءاته القاسية, تربكه تلك الابتسامة المزروعة في هذا الوجه المثخن, يمسح هذا الوجه بقليل من الماء و يشربه منه قليلا, فجأة يقطع الوجه ابتسامته و يستجمع قواه و يومئ ناحية جيب سترته, ثم يعيد رسم الابتسامة من جديد و يخمد و يتراخى مائلا .... مات الرجل؟
يحدق قليلا في نفس الوجه, قبل قليلا كان يبتسم له, الآن صار يتهكم منه و يسخر مثل الآخرين, يفتح جيب السترة, يستخرج طردا صغير كتب عليه عنوان و بداخله علبة صغيرة, يتفقد العنوان ليجده لقرية ليست ببعيدة عنهم, يهم بفتح الطرد فيتبدى له الوجه المبتسم فَيَكُفُّ عن الأمر و يعزم على عدم فتح الطرد و إيصاله بنفسه دون البريد.
و تمر الأيام و يُدْحَضُ العدو إلى الخطوط الخلفية, و الطرد لا يفارقه, يخرجه أحيانا و يحاول هزه عله يتقصى صوتاً يوحي إليه ما في العلبة, يهم بفتحه من جديد, لكن ذاك الوجه المبتسم يحول بينه و بين الأمر.
يوم دخل الجيش تلك القرية, سارع للبحث عن العنوان سائلا كل من يصادفه, و هو في الطريق لا يكف عن مجادلة نفسه و أوهامه عن صاحب الطرد و ما فيه, و هل يجد البيت و أهله سالمين, هل هو رجل أم سيدة, و ضل على تلك الحال حتى وقف أمام العنوان نفسه.
عدل ربطة عنقه و قبعته حالِماً بِرُعُونَةِ جندي بطيف سيدة جميلة, طرق الباب و انتظر قليلا, و هم بطرقه ثانيا لكنه أحس بمعصم الباب يتحرك فتراجع خطوة إلى الخلف, فتحت الباب عجوز مبحلقة خلف نظاراتها, حياها و استأذنها و دخلا البيت, جلس معها على كرسي وجه لوجه, أخرج الطرد و سلمه إياها و نظراته عالقة به, فتحت العجوز الطرد فأخرجت صورة لنفس الوجه المبتسم, ثم أخرجت العلبة و فتحتها, و الفضول يكاد يطبق عليه, استخرجت من العلبة طقم أسنان اصطناعية و لبستها على الفور و ابتسمت فتبدى له الشبه بين الوجهين, و استرسلت تفتح و تطبق فكيها مجربة الطقم و سألته عن أحوال صاحب الصورة مردفة بالقول : لو كان هذا الطقم أصغر بقليل لكان أحسن .... فأخبرها أنه في جبهة بعيدة ثم انصرف.
خرج مستغربا من ذاك الوجه المبتسم و كيف جند لحظات حياته الأخيرة ليوصل طقم أسنان لامرأة مسنة, احتار أيلعن ذاك الوجه أم يلعن نفسه, هل هذا حبٌّ أم وعدٌ أم طاعةٌ أم خوف ...... كاد يجن و هو يبحث عن سر تلك الابتسامة ..... هل هي سخرية منه أيضا ؟
توقف و تلفت إلى المنزل ثم ردد في نفسه متهكما و ساخرا مثلما سخرت منه الجثث:
تبا ربما كانت ابتسامته ابتسامة