المقامات . مقامات أبي الطيب . الأدب العربي . أدباء عرب
حدَّثنا أبو الطيِّبِ الوائليُّ ، قال : اعتراني في سحرٍ من الأسحارِ ، ما ألزمني بالاضطرارِ ، أن أسيرَ هائمَ الوِجَهَةِ في الدروب ، عائمَاً في همٍّ الكروب ، لا ألوي على أحدٍ من الخِلان ، و لا أطوي السيرَ لمنادمة الأخدان ، إذْ سربَ مني كلُّ معلومٍ ، و عَزَبَ عنِّي كلُّ مفهومٍ ، و ما أقبحَ الهمَّ بالفتى ، و ما أشْيَنَ الكرْبَ مُقْتنى ، حيثُ فتَرَ بي عن الكمال العزْمُ ، و ضعُفَ مني نحو المراقيَ الجَزْمُ (1)، و ما كان ذاك يوماً من خُلُقي ، و لا معلوماً في خَلْقي .
فبينا أنا في الطرقِ المسلوكة ، بين المباني المسبوكة ، انتهى بي المطافُ ، و حطَّني التطوافُ ، في مجمعٍ كبيرٍ ، و محفلٍ وفير ، تعتلي رؤوسَ جالسيه العمائمُ البيض ، يتبادلون نثْرَ القريض ، و يتصدَّرُ مجلَسَهم عظيم المقام ، بليغُ الكلام ، يأخذُ قلبَك بلفظه ، و يُحدِّقُ فيكَ بِلَحْظِه ، يُحْسِنُ سَبْكَ العبارات ، و يُتقِنُ حبْكَ الأحرفِ المرصوفات ، فجلستُ حيثُ انتهيتُ ، و أدركتُ من كلامه ما وَعَيْتُ ، و إذا بِه مُسْهِبٌ في إيضاحِ الأشعار ، مُبِيْنٌ دقائقها بالآثار ، فأدهشني و سحرَني ، و أعجبني و بَهَرَني ، فأصغيتُ بالقلبِ و الأذنُ في شُغُلٍ ، و أنْصَتُّ بالفؤادِ و العينُ في وَجَلٍ ، خوفَ الفِطنَةِ لما حلَّ بي ، و رهبَةَ المجلسِ الأدبي ، فكان مما قالَ المُقدَّمُ ، و ما فاهَ بِه المُفَخَّمُ :
إن العزمَ بضاعةُ أهل الكمالِ ، و صنعةُ أفذاذِ الرجالِ ، يَعزمون أمورهم بقوةِ اليقين ، و يَحزمون أنفسَهم بجودة التمكين ، فيسيرون في نيل المآربِ سَيْرةَ الواثقِ ، و ينشُدُونَ المطالبَ بالحقائقِ ، لا يعتري سبيلَ السائرِ منهم صغيرٌ حقيرٌ ، و لا يحجبهم عنْ مرادٍ تنفيرٌ و تثبيرٌ ، فبقدرِ ما هُم فيه مِن الهمِّ و الهمةِ ، أدركوا كلَّ حاجةٍ و مهمة ، و درأوا عن أنفسهم الملماتِ ، و أزاحوا موجباتِ الملامات ، و النهوض بالعزائمِ في النفوسِ ، و الارتقاءُ بها من مواطنِ البُوْس (2) ، حالُ راغبي الكمال ، و طالبي الاتصال ، و أمرُ ذلك سهلٌ هيِّنٌ ، و يسيرٌ ليِّنٌ ، و إنما العيبُ في نظرِ أعينِ الناسِ إليه ، و عدمِ الإقبالِ عليه ، و الصادقُ الساعي ، و النابِه الواعي ، يُدركُ من نفسِه أسراراً ، و يكشفُ أمرها سراً وجهاراً .
ثم أدرِكوا بقلوبٍ واعية ، و آذنٍ مُصْغِيَة ، إلى ما أشارَ إليه الحكيم ، و ما أومأ إليه ذو الخطبِ الجسيم ، إذْ مدارُ الأمور صِغراً و كِبَراً ، على ما بدا للنفسِ مُظْهرا ، فَمن استكْبَرَ الحقيرَ استكان لهوانٍ ، و من استحقرَ الكبيرَ علا لَهُ الشان (3) ، فكم من كبيرِ همةٍ و عزيمةٍ ، أودَتْهُ مخاوفُه السقيمة ، حيثُ لا يرتضي من المنازل ، و لا يَرْغََبُ من المحافلِ ، و لو أدرك في فقاهةِ عقلِهِ ، و درى بكياسةِ نُبْلِهِ ، أنَّ الأمورَ ليست كما هي في الظاهرِ ، و أنَّ اعتبارَها بما في المخابرِ ، لَحظيَ بالمضمون الطيِّب ، و شمخَ له العلَمُ اللهيِّب ، و لكنَّهُ استعظمَ في باطنه المُحَقَّرات ، و ادعى لها شأنَ المُعظَّمات ، و اللائقُ بأهلِ السعاية الكاملة ، و ذوي الرعايةِ الشاملةِ ، استسهال كلِّ صعبٍ شديد ، لِدَرْكِ المُنَى المجيد ، و لقد سرتْ النَّقلةُ لأشعارِ العربِ ، و أبلغتنا الرواةُ من أهل الأدبِ ، قولَ الأولِ القديم ، في شعرِهِ الحكيم :
لأسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ أوْ أبْلُغَ المُنى *** فَما انقادَت الآمالُ إلا لصابرِ
و يا تُرى كمْ راءٍ الجميعُ في أحوال الناس ، و دارٍ الكلُّ في مختلَفِ الأجناسِ ، مِن أقوامٍ لا يُؤْبَهُ بِهم في مظاهرهم ، و إنهم الأكملون في مخابرهم ، قد أدركوا ما عجزَ عنه الغَيْرُ ، و نالوا ما تغَنَّتْ به الطيرُ ، فليس الشأنِ بالأشكالِ و الألوان ، و إنما باليقين و صمودِ الجَنانِ ، و صِدقِ الرغبةِ في المطالبِ ، و اغتنامِ فُرَصِ المآرِبِ .
و مُحصَّلُ ما نثرْناهُ ، و خلاصةُ ما رُمناه ، أنَّ يعلمَ السائرُ في دربِ الكمالات ، و السالكُ طرائقَ الولايات ، أن استعظامَه الأمورَ حجابٌ منيع ، و خُلُقٌ وَضِيْع ، و أنَّ الضِّدَ أكملُ ، و العكْسَ أجملُ ، فيستصغِرَ ما يَريدُ ، ليبلَغَه و يُجيدَ .
فالصبرُ وًَصْفُ الرجالِ ، و نعتُ أهل الكمالِ ، فالزموا غَرْزَهُ ، و افقهوا رَمزَه ، و إياكم و الضجرُ ، و السيرورةُ من الهمِّ في السَّحرِ .
و عليكم بجادةِ العزمِ المُسَدَّد ، فإنه النهجُّ المُمَجَّد ، و الآفةُ في الاضطرابِ ، و العيبُ في الانقلاب ، و انشد الأوائلُ ، الأكارمُ الأفاضلُ :
إذا كُنتَ ذا رأي فَكُنْ ذا عزيمةٍ *** فإنَّ فسادَ الرأي أن تتردَّداَ
و إنْ رابَ ذا العزمِ خَوَرٌ ، و اعتراهُ فَتَرٌ ، فلينظُرْ إلى ذاتِهِ ، و ما كمُلَ مِن صِفاته ، فإنَّ المرءَ بالصفاتِ الكماليةِ تمامُه ، و بالنعوتِ الجماليةِ التئامُه ، و ما الأمورُ إلا عوارضُ ، العزائم و الهممُ لهنَّ نواقضُ ، فإياكَ أيها الحاضرُ النبيهُ ، أن تُرْعيَ سمعكَ لهالكٍ سفيه ، فيأخذَك نحوَ مراتعِ الدُّناةِ ، فتنأ عنك الكُمَّلُ الأباةُ ، و اسلُك مراداتِك بقوةٍ اليقين ، بنعتِ القوي الأمين .
و ليعْلَم العازمُ ، ذو الهمة الحازم ، أنه ليس من عزيمته ، التقصيرُ في مِشْيَتِه ، فذو العزيمةِ آخذٌ أمورَه بالكمالِ ، و آتياً به بها دون إخلالٍ ، و التقصيرُ ضعفٌ و عجزٌ ، و همْزٌ و لَمْزٌ ، و لقد أنشدَ الحكيم قائلاً :
لَيْسَ عزْماً ما مرَّضَ المرْءُ فيهِ *** ليس همَّاً ما عاقَ عنه الظلامُ
فلْيَسْع كلٌّ في حاجته على إتمامها ، و إكمالِ تمامها ، أدام ربي عليكم نِعَمَه ، و وقاكم شرَّ نِقَمَه .
فَنحاهُ (4) امرؤٌ بالسؤالِ ، مفتتحاً بُحسنِ الاستهلالِ ، سيدي الأمجد ، و مولاي الأحمد ، آنستنا بحديثكم الممتع ، و أطربتنا بقولكم المقنِع ، و إني قاصدٌ جنابَكم بسؤالٍ ، خالجني منه إشكالٌ ، فإنَّ العزْمَ في الأمورِ مقام العِلْيَة ، و هو خير حليَة ، فأبِنْ أبا الفَهْمِ ، عن محالِّ العزمِ .
فرأيتُ نواجِذَ الأستاذِ بادية ، و عَلَتْهُ بسمةٌ صافية ، فأطرَبَه السؤالُ المورود ، و أعجبَه السائلُ المحمود ، فأطرَقَ الرأسَ في حالِ طَرَبٍ ، و حدَّقَ العينَ بِحُسْنِ أدبٍ ، فقال للسائل الفتي ، أيها الذكي الألمعي ، إن لسؤالِكَ شأناً ، و جوابَه أبَنَّا ، فإليكَهُ مُقرَّراً ، و دوْنَكَهُ مُحرَّراً ، فأصْغِ إليَّ بالسَّمْعِ ، منحك الله تمامَ النفْعِ ، إنَّ للعزمِ محلَّيْن اثنين ، ظاهرين بِلا مَيْن ، أولُهما : قَبلَ البَدْءِ بالأمورِ ، يُظهرُ الصادقَ من المغرور ، تدفعهُ الهمةُ دفعاً ، و ترفعهُ المقاصِدُ رَفعاً ، و ثانيهما : في البقاءِ و الدوام ، حتى الإنجازِ و الإتمامِ ، و هذا مُعتَرَكُ أهل الكمال ، و موطنُ مخابَرَةِ الرجال ، فإنَّ الأمرَ كما قيلَ :
لِكُلٍّ إلى شأوِ العُلاَ وَثَبَاتُ *** و لكِنْ قليلٌ في الرِّجالِ ثباتُ
ثُمَّ ختمَ الأستاذُ ، و كلامه الأخاذُ ، ذاك المجلسَ البديع ، و المجمَعَ المنيع ، بالحمد للهِ ، و الشكرِ على ما أولاه ، و الصلواتِ الطيبات ، على أكمل القُدوات ، وَ وعدَ بلقاءٍ قريبٍ ، معَ شِعرٍ رَطيبٍ ، و استودعنا الرحمن ، و استأمننا بالأمان .
انتهى كلامُ الخبير ، و أبلغَ في النعتِ و التصويرِ ، و لقد أجادَ و أفادَ ، و أحسنَ الإرشاد ، و آليتُ على النَّفسِ أن أكون مُلازماً مجلِسَه ، و أن أرعى حُرْمَتَه و أوْنِسَه ، فقلد أزال عني كُرْبَةً مُسْتَعْصِيَة ، و أزاحَ ظلمةً مُستَولِيَة ، فلما همَّ بالخروج ، قاصداً بابَ الولوج ، يمَّمْتُ وجهي إليه ، و امتثلتُ بين يديه ، فسلمتُ عليه سلامَ الأكابر ، فردَّ بأجملِ العبائرِ ، فقلتُ : أحسن ربي مقام الأديب ، و رفع مكانةَ الخطيب ، سرَّني كلامكَ المنوَّرُ ، و لفظك المُحبَّرُ ، و إني سائلٌ مقام أهل الشرفِ ، مستمنحاً أسنى التُّحَفِ ، عن الحكيم الذي أبنتَ عن قريضه ، و اكتفيتَ عن التصريحِ بتعريضهِ ، هل إلى كشفِ اسمه من سبيل ، و إلى نعتِ رسمه من دليلٍ ، فإنني واثقُ الخطى نحوه ديوانه ، فمضمون الكتاب يبينُ من عنوانه .
فأجاب بكلِ لطفٍ ، بصوتٍِ مُطرِبٍ كالدُّفِّ ، ذاك أحمدُ بن الحسين ، المشهورِ في كلِّ أذنٍ و عين ، أعني به المتنبي الكندي ، أجلَّ الشعراءِ عندي ، و بيتُه في مدحِ سيفِ الدولة ، ذي الصولة و الجولة :
على قدرِ أهل العزمِ تأتي العزائمُ *** و تأتي على قدر الكرامِ المكارِمُ
و تعظُمُ في عين الصغيرِ صغارها *** و تصْغُرُ في عين العظيم العظائمُ
فاستودعته الله ، و أوكلته لمولاه ، و رجعتُ حيثُ أتيتُ ، و أثبَتُّ فيما قرأتم ما وعيتُ ، و دمتم في الرعايةِ ، و أمنتم بالعناية .