كنت أنا ذاك الصبي الذي يقودُه الجنون...ملهوفٌ كأصابع رسام يخلق كائنات غريبة...يعيش عالم الخيال الواسع ولا يبالي بواقع اليوم,
بكحل الحُلم كنت أتزين..أعبر الجسور المعلقة بيسر...وأخلق من رحم وجعي أبهى الآمال...وأقول:أن الطائر الذي قُدر له أن يطير, ويُصر على التغريد
كنت حينها مخصوبا بالرومنطقية...تلكَ التي تُـقزم الإيديولوجيا السائدة...وتُشيِّد حياةً خفية وراءَ كوكب دري لا يحمل إلا مكانا واحداً ولخيالٍ واحد,
ربما براءتي التي تلفها تلافيف اللاوعي ساقتني لتفسير وجه العالم بفلسفة خالية من الموت...خالية من الفجيعة والألم والماضي.
وبقيَّ قلبي حياً على ذاك التردد يبعثُ ربيعا يروي عطشي الكبير لإستكشاف مناخ الحياة الممتد لفصولها الأربعة, والتي تظل تنزفُ,تنزف وسط الأزمات الإنسانية المريبة
عندما نغفوفي حلم ما و"ندكترهُ" حتى يكون على مقاسنا,فإننا لا نعدو أن نكون كحاكم مستبد يـُــعد الجيوش والدروع,حتى لا يترك أية فرصة لإختراقه..وسرعان ما يعجز وينهزم
لأن حلمه بالبقاء قيدَ مملكته,كان ضعيفا أمام إرادةٍ خارجية غاضبة..تماماً كنحن: أحلامنا الصغيرة المطهية بالفرح,تنهزم أمام أتفه آيةٍ للحزن
ذات يوم سألني جدي بإستفهام كبير:
متى ستتوقف يا أيها البليد عن اللعب,أما ترى أنك قد كبُرتَ كفاية,وآنَ لك أن تواجه الحياة بقساوة, لا بهزل وإستهتار..؟
كنتُ في حلقة مفرغة يحرُسني جهلي لـكيفية الرّد عليه,فوقفت متسمراً في مكاني كصخرة صلدة,أراقب إنفجاره في وجهي
كما وقد علمونا في الصغر أن لا نرد الكلام على شخص يؤمن أنهُ كَـبُر فجأة...مهما بلغَ ظـُلمه في حقنا اللاّمُعـْـتَـبر, نبقى صامتين من باب الإحترام...
وأما الآن, وقد إقتنعنا بقدر الصمتِ المُعاق لا شيء سيجعلنا نصرخ مهما أثاره من زوابع الإذلال لكياننا...نحن التماثيل التي لا تملُ الوقوف المتوالي في المكان
قال لي محاولا لفت إنتباهي وهزّ كياني بحقيقة حياة لا ترحم:
تحب اللعب والمزاح والقفز على قدْر العطاء...أليس كذالك..؟
إبتسمت دهشةً من خلطة سؤالٍ عكس ذاتي...أوهمتـُه بالصحة التي يمكث وراءها رافعا,خافضا رأسي التائه..
قال: أتحب أن ترى من كنت تضحك معه يضحك عليك,ومن كنت تلعب معه,يلعب فيك
وأنا في ذاك المربع,أُتاجر بالحيرة,أنا الموقوف في مطاراتٍ مجهولة,أجيب بإستغراب على بوليس السؤال:لا أحب هذا طبعاا.
ويردُ عابراً مشاعري بطريقةٍ غير معهودة,منبوذة,فقد جرَّد عقلي الحيل, وجعلني أبارزُ الشتاتً الآتي من ذاتي...
الحياة التي تلعب فيها اليوم بسرور,غدا ستلعب بك وفي حبور,ولن يفيدك الندم...لن يفيدك...
مسحورٌ أنا بشوق تامٍ يرفع من إلتهاب أنانيتي,الحقُ أني لم أكلف نفسي عناء الزهد في قلق جدي,وسرت مستيقظا أتناول الحياة,والضحك,والرغبة,ولم ألتفت لتحذيراته
وأما الآن وقد كبرت شيئا وإزداد في جسدي شيء,أدركت أني خائف بقدر ما أني مهموم لسبب مجهول,أصبحتُ تلك الكرة التي تتدلى من قدمٍ لقدمٍ
ذاك الطريق المداري الذي يعيدك من أين أتيت...أصبحت مطارداً لا يجري من خلفي أحد سوى مخاوفي...لم أصبح أنا,بل أصبحت خيبة في بطن حياة متقلبة
كذبت عندما أمِنت الزّوايا المفخخة....وكذب جدي عندما نبهني لها,ولم يعلمني طريقة تجاوزها...نحن اللذين نكذب على أنفسنا...فأصبحنا لقمة سائغةً,مذلولةً على ضفاف من حولنا,ومن بعدنا.