وَدَاعٌ عَلَـى ضِــفــَافِ الــدَانـُــوبْ
بودابســت، 13 أكـتوبر 1973.
همسات من نسيم الغروب تداعب خصلات من شعرها الذهبي بهدوء، فتزيدها جمالا فوق جمالها الأوروبي الأنيق.
حيث يبدوا المنظر راقيا على ضفة نهر الدانوب، فبعض القوارب اختارت الرجوع مع غروب الشمس في تسلسل رائع غير مقصود، و عشاق اختاروا المكان لممارسة طقوسهم الغرامية و استغلال روعة الغروب ليضفوا على المكان منظرا يزيد من سحر هاته المدينة الأوروبية الموغلة في العراقة و القدم.
ايميلي، الفتاة ذات الشعر الذهبي، سبقت الموعد بدقائق لتستغل شاعرية هذا المنظر البانورامي، بلغـة عاصمة الاناقة باريس، عله يغـْـنِي صفحات من قاموسها الرومانسي قبل أن تكتمل زوايا المكان بحضور نصفها الاخر.
لـم يتأخر كرم، الطالب المصري ببودابست، عن الموعد، فأتى حاملا بعض الأوراق بعناية و حرص شديدين.
هي كذلك، لم تتأخر في تقبيله، كمقدمة لموعد حب اختار فيه الساعة و المكان، و اختارت هي فقط، مقدمة اللقاء كنوع من الديموقراطية، مثلا.
ابتسم في وجهها، و قال لها بهدوء شديد :
- سأغـادر بودابست. الوضع في مصر لا يحتمل الإنتظار بعـد الهجوم على اسرائيل السبت الماضي. والداي لن يستطيعا توفير مصاريفي الجامعـية فقررت الرحيل. طائرتي بعـد ثلاث ساعات من الان. أحبك ايميلي، ولكن ...
لم يستطع إكمال جملته بعد اغتصابه لأجمل مشاعر ايميلي تجاهه، أو بـعد قتله لأول شريان يضخ دماء الحب في قلبها، و سينتهي بقتل اخر شريان أيضا، فقط بعـد لحظات.
لوهلة، لم تستطع استيعاب الأمر. غير أنها استجمعت بعضا من قواها التي خارت مع كل صاروخ أطلقه على كيان حبـهما، و ردت بهدوء أشد :
- كيف فـعلت هذا ؟؟ لماذا لم تخبرني من قبل ؟؟ أو تجاهل السؤالين و أخبرني ماذا أسمي ثلاث سنوات من حبي لك ؟؟ أخبرني ؟؟
- حبيبتي، سنسميها أجمل قصة حب لم يكتب لها البقاء، فأردت تشييعها هنا، من حيث بدأت، على الضفة الشمالية لنهر الدانوب، رمز بودابست و عاصمة العشاق حتى أحترم قانون الغارقين في بحر مشاعرهم أو نزواتهم.
- أتدرك ما تقول ؟؟ أتعلم أنك تضرب مشاعري عرض الحائط دونما أي إحساس بها ؟؟
- صغيرتي لا تقولي هذا، ظللت وفيا لك طوال السنوات الثلاث. أحببتك طبعـا و أنت تعلمين هذا الأمر، فلتتفهمي أن نداء الوطن أقوى من كل شيء. عذرا لا يمكنني البقاء، أحبك ايميلي.
لم تتوقع أن ينهي النقاش بهذه السهولة، فقالت في محاولة أخيرة كاتمة دموعها :
- و هل سأراك بعد الان ؟
- ايميلي، أحبك جدا، و لكن لا أظن، أو دعنا نتركها للزمن. لدي ما قد ينسيك ألم الفراق، أو ما قد يضرم النار في مشاعرك إن أردت طبعا، قصائد كتبتها لك، رسالة وداع مع امضاء عاشق فرعوني صغير، مر من هنا يوما،
و انبهر بسحر الدانوب.
- أتلخص ثلاث سنوات في أوراق ؟؟ و تقول لي ذكريات، أهذا كل شيء ؟؟
- ليس كل شيء حبيبتي، فقط تذكري، أوراق و مشاعر، لحظات، أشواق، و بالتأكيد نهر الدانوب .... حاولي جمع الكلمات، و لك الخاتمة كما كانت لك المقدمة ....
لم تستطع إخفاء أشواقها المبللة بألم الفراق القابل للإشتعال نارا حارقة في أية لحظة، فـعانقته بقسوة و مرارة مبعثرة كل أوراق حبهما هنا، أمام المراكب الصغيرة التي لم تتخل عن تسلسلها الجميل، الغير المقصود.
هو كذلك، الشاب المصري الذي أتى طلبا للعلم بهنغاريا، فـلم يتمرد عن نظام هذه المدينة الرومانسية، فـنال حظه من الحب ثلاث سنوات نبيذا أحمر يشرب بشهوة هنا فقط، على ضفاف الدانوب، ليس بقاموس حانة ميلانو التي يرتادها الشباب مساءاً للإستمتاع باهتزاز خصر الراقصة ''البودابستية'' تيريز، و لا بقاموس بار "لابيرلا" الإسباني الذي يعج يوميا بعشرات الزبائن ممن تخلوا عن خصر تيريز طوعا و اختاروا الهدوء لإرضاء ثمولهم و التفكير في مشاكلهم، بل بـلغة العشاق ممن اغتالهم صمودهم أمام الفتيات الهنغاريات فأمضوا سهراتهم هنا يستأنسون بوجود المراكب و الأضواء، عانقها وبكى.
مع وصول اخر مركب للضفة، وصل قطار الغرام أيضا إلى محطته الأخيرة معـلنا في صوته المعهود عن نهاية الرحلة و ضرورة الهبوط، حيث يغـادر المسافرون من العشاق أمكنتهم مع وداع مصحوب ببعض الدموع، و بعض الإبتسامات، و كثير من المشاعر.
ترك كرم المكان بـعد سلام أخير على ايميلي، سلام امتزجت فيه مشاعر الحب بحسرة الوداع مع وعود بالوفاء،
فـتباعدت الأيادي التي كانت يوما، ترسم قلـبا هنا، على ضفاف نهر الدانوب .... وداعـا بودابسـت.