ابريق شَايٍ,، زيتون في صحن يتيم وكسرة رغيف على مائدة عشاءها، مدت يدها بتأن كأنها تنتظر تلك الأيادي الصغيرة لتسبقها وتتخاطف اللقمة.
كان صراخهم يملأ المكان, ضحكاتهم وحتى صوت بكائهم المزعج، كم اشتاقت لهم الان.
تمعنت في صورة تزين جدار غرفتها , ابتسمت بحنان مقهور، وامتلأت مقلتيها دموعا .
كيف رحل الجميع عنها!؟
كيف أصبحت شبحا يعيش بين اطلال الماضي، تشبه شجرة التين التي أمام بيتها ،وحيدة معزولة .
شجرة قطف الزمن ثمارها ، وهاهي أوراق عمرها تساقطت بانتظام ،لتعلن نهاية خريف طويل، ويرحل العمر
ليعيد الزمن عجلته لساعة الصفر.
عاشت بلقب ارملة ؛ وهي لم تتخط الثلاثين من العمر، وعدها أنه سيكون رفيق دربها ، لكنه رحل وخذلها .ودفنت معه كل رغباتها وأحلامها ونسيت أنها انثى.
أكملت مشوار الحياة ودروبه القاسية وحدها ، تحمل عبء حلم حققاه معا ، ستكمله لوحدها .
فرحا معا في كل ولادة جديدة ، كم سهرا للبحث عن اسم جميل يحمله وليدهم . واليوم هي فقط عليها إعالتهم وتربيتهم، هي الام والأب .
مسحت الابتسامة والدلال والرقة من قاموسها ، خوفا من القيل والقال ، ومن ذئاب تتصيد ضعف امرأة وحيدة. عاشت فقط
لأفواه جياع تملأ معدتهم بإطباق شهية تطبخها . حاكت كنزات من صنع يدها لتدفئهم . سهرت ليالي لمرض أحدهم ، عاشت خوفهم وحزنهم وضحكهم و
كل نجاح حققوه ،
تخفي أي دمعة انكسار صادفتها في مطبات الحياة الوعرة ، لا تريده أن يتقلب في قبره ، كما سمعت أمها تقول دوما ّّ يعلمون ولا يقدرون ّ
تفانت في خدمتهم ليسعدوا ويحققوا أحلامهم.
كبروا ، تزينت و تصنعت الفرح وهي تزفهم عرسانا وعرائس.
رحلوا كما رحل هو.
بقيت وحيدة مع الذكرى
الفرق فقط هو أخذته المنية منها، وهم أخذتهم الدنيا الواسعة في دوامتها .
تركوا لها فقط في كل ركن ذكرى، ابتسامتهم ؛ ضحكاتهم هناك ،كانوا سعداء هنا .أين سعادتها.
سعادتها دوما هي إسعادهم.
لم تسأل نفسها يوما هل هي فعلا سعيدة.
و رحيل كل يوم ترحل معه لهفة للقاء ويولد الأمل في الغد، لتنتظر فقط رنين هاتف
يحمل صوتهم من بعيد ، يشكون همومهم ، صعوبة الحياة ،زحمة الوقت ،كثرة المشاغل ووعد بلقاء قريب. وتشحن هي عزيمتهم لمجابهة الحياة وتغدقهم بدعواتها الكريمة .
لتصنع الفرحة لنفسها تعيد شريط حياتها لحظة لحظه، معهم لترسم ابتسامة بائسة في وجه زمن تحداها وكسب رهانه وزين وجهها بخطوطه. تنسى مع كل ذكرى زحمة الرحيل و الإنتظار .
وحدتها لم تخترها طوعا يوما بل الوحدة من اختارتها قسرا .حلمها ان يعيشوا معا في بيتها أو ترحل معهم فالمكان لا معنى له بدونهم ، لكنهم رحلوا و اختاروا أن تكون لهم حياتهم المستقلة ،تركوها وينتهي معها كرنفال قوس قزح لتعيش اعيادها الاخيرة بلا لون .
حتى أحفادها نفروا من عجوز جاهلة
- أنت قديمة جدتي ، لن تفهمي شيئا .
أجابوها
كلما استفسرت أحدهم عند زياراتهم النادرة لها عن تلك اللوحات التي يحملونها أينما راحوا وارتحلوا و عن سر طقطقات على مفاتيح هواتفهم كأنه تسبيح ناسك لا يتوقف عن الاستغفار ...
موكب الرحيل هذا تركها تستجدي أخبارهم من كل عائد للبلدة .
تفقدت الصورة المبروزة ببرواز من ذهب بين يديها كأنها تبحث عن شئ ، مسحت بكمها علها تظهر تلك الملامح البريئة التي افتقدتها كثيرا .
- لقد تغيروا كثيرا عن آخر مرة رأتهم فيها، صورهم في ذاكرتها مشوشة.
فركت عيناها ثانية لتمسح تلك الدمعة اليتيمة التي علقت بمقلتيها فحجبت عنها الرؤيا ،؛حرارة تنهيداتها قطعت سكون المكان،
احضنت الصورة في شوق كبير ..و قطرات لؤلؤ صافي تسابقت لتشق خديها وتصل ملوحتها فمها. و رفعت سبحتها بلطف ، وأبعدت المائدة عنها كأن بحركتها هاته تبعد الافكار المتزاحمة في رأسها. بدأت تسبيح والاستغفار وهي تقترب من مضجعها وعيناها لم تفارقا الصورة التي وضعتها مكانها لتتصدر حائط الغرفة
...علت ابتسامة مشرقة محياها ورددت الشهادتين !