البارحة فقط أكمل ثلاثين سنة، لم يفهم بشكل قاطع كيف مرت تلك السنين كلها و لكن تاريخ اليوم يقول بأنه مقبل على الكبر بشكل متسارع،إنها حقبة طويلة بالنسبة لمن لم يعشها و لكن بالنسبة له فقد مرت كأمس أو كأول أمس ،لم يصنع شيئا محددا خلال هذا الزمن الضائع من حياته ، و عدا ذلك فقد أدمن التدخين و ارتياد المقاهي ،يسهر حتى ساعة متأخرة من الليل ثم يغط في نوم لا معنى له و لا فائدة .
عندما شرب أول مرة شعر بالذعر و مثل النساء بكى و هو يطلب الصفح من ربه، و مرات كثيرة قرر بأن لا يعود لحياة المجون و لكن هوس الضياع غمسه بقوة مرة في إثر مرة، كتعويض يبحث عن قلم و ورقة ، يكتب شاكيا إليها ما يعانيه من ضيم الهوان، أدرك و هو في الثلاثين بأنه يملك رغبة في الكتابة، و أدرك بأنه على الورق يصبح إنسانا آخر ، إنه يتحول فجأة إلى كتلة من العواطف و المبادئ و القيم الفاضلة .
يكتب عن هموم الناس و عن الحب يكتب أيضا فيشعر بسعادة تجعله خفيفا مثل الريشة
بالكتابة أيضا تعرّف على حبيبته التي لم يحلم بها يوما، و أدرك معنى أن يصبح القلب عاشقا بطريقة متهورة بدون خوف من القوانين. كان يشتهي و هو يمارس طقوس الحب أن يتعذب في هواها كسمكة تتخبط يائسة بعيدا عن حنان الماء .
بشكل عجيب تحول إلى رجل آخر يكره التدخين و ينبذ حياة المجون ، يشم الورد في الأصص و يطرب بسماع الموسيقى ، ينتظر، يحلم و يشتاق و يحنّ أيضا !فتحدّث عن الرجل و المرأة بطريقة مختلفة عن غيره .طريقة عجيبة و لكنها صادقة إذ أنها لا تحتمل المجاملة و لا الكذب.
عرف نفسه أخيراً و أصبح يكتب عنها و عن أترابه من المعذبين الذين كثيرا ما جالَسهُم في المقهى ،كتب عن قصص حبهم ، آمالهم و آلامهم،أحزانهم المدفونة خلف جدران الصبر،أراد أن يخفف عنهم قليلا محاولاً محو الحزن الذي طالما خيّم على وجهوهم المتعبة ،كان يتأمل اندفاعهم صامتًا و هم كالأطفال يتحمّسون لنشرات الأخبار العاجلة بين الفينة و الأخرى تبثّ فيها المذيعة بابتسامة عريضة أحيانا و بملامح حزن مصطنعة أحيانا أخرى أنباءً عن انفجار دوّى مخلّفاً أطنانا من الأشلاء و سلسلة بلا آخر من المشردين و معذبي الأرض.
وجوهٌ متعبة في المقهى كانت تتغير من حال لحال ، و أخرى غير مهتمة،و أخرى لم تعد تطيق صبراً لكل تلك المشاهد الدامية فتنسحب بهدوء بمجرد سماع "جينيريك " الأخبار المزعج !
هو كان ينتمي للفئة الأخيرة ،فئة المنسحبين من عالم كريهٍ عفن ،لعالمَِ ورقٍ ناصع البياض نلوّنه كيفما نشاء .... فقناعته دفعته بصورة هادئة لاعتناق الفكر السليم الذي يشتري من خلاله آلام الناس و يبيع لهم من غير مقابل الورد و الأمل و السلام .
اكتشف بداخله موهبة و قدرة غريبة على خطّ حروفٍ مليئة بالحياة و الأمل و الحب ....
حبيبته سألته ذات مرة :
ماذا تعني الكتابة لك ؟.
فهتف بلغة عذبة :
الكتابة عندي هي تحويل الحب إلى كلمات .
قالت و هي تهمس في أذنه :
لذلك لا أعجب أنك رومانسي لدرجة تبكي فيها على وفاة قط بعجلة سيارة.
فقاطعها مازحا :
و لا عجب أيضا أنني أحبك أيتها الشقية.
فكّر ذات يوم : لمَ لا أنشر أعمالي البيضاء ،علّها تمحو قليلا هذا السواد الذي يغلّف العالَم ، علّها تخفّف قليلا عن أترابي يومهم الطويل في لاشيء !و علها أيضا ترقق المعاناة و ترتق الجراحات الغائرة و تلون العالم بألوان الحب و السلام.
تحمّس للفكرة ،فقصد دُور نشرٍ كثيرة رفضتْ أعماله بحجج واهية،آخرها دار " الأمل " للنشر و التوزيع التي قصدها حالمًا من اسمها ،لكنها كانت أسوء من غيرها حيث رفضته قائلة: "لقد أُعجبتْ اللجنة بأعمالك ، لكن نتأسف هي لا تخدم سياستنا "!
تركته حائرا مُعلّقًا لا يفقه تلك الجملة الأخيرة " لا تخدم سياستنا " !
ألستم مثلي تجرون بلهفة خلف الأمل ؟
بعد رفض طويل و محاولات عديدة لكسرِه اهتدى لمعنى الجملة " لا تخدم سياستنا " التي كانتْ تُقال كلّ مرة بلغة مختلفة !
لاذ هذه المرة المرّة بأوراقه السوداء ، خطّ فيها عناوين و سطور كثيرة ..قلب الدنيا كما يشاء،أقامها و لم يقعدها :
" ربيع عربي يجتاح قلوبنا المكلومة...فتنة من كل الجهات تتربص بنا كالموت و الذئاب ، فتنة داخليّة ... ثلاثة آلاف قتيل هنا ، و ستون ألفا هناك ،قلوب محطّمة و عيون تبكي في حسرة بلا انقطاع، تآمر ، خطابات سياسية مشحونة بالسم و العذاب، أنا مع تلك الجهة و أنا مع الأخرى ..، لكن هذا ثمن الثورة ، ثمن الشمس التي ستسطع يوما ، فلتحيا الشعوب و ليسقط الحكام ,لابد من ثورة ، لابد من تضحية ، الجهاد ، الله أكبر......... "
وصل للصفحة المائتين في ظرف وجيز! ما أسهل الكتابة على الأوراق السوداء !: تعجّب في نفسه.
كَتَب ما لمْ يؤمن به يومًا ،و ها هو كراهب يمارس ديانة عجيبة اقتناها من كوكب بعيد اسمه الفوضى، كان يتلقف الأخبار الهاربة من المقهى و يزج بها في كتاباته قسرا،أصبح مرتدا و لا حياء و كل أصدقائه أدركوا أنه قد جن .
حمل مولوده الأسود قاصداً إحدى دُور النشر التي زارها يومًا و رفضت أعماله البيضاء،كان مولودا شائها يغلي غضبا و مكرا، كان مولودا بلا أب ، عثر عليه في ماخور تغتصب المروءة فيه صباح مساء. فتحوا الصفحات الأولى على عجل ،تهاطلتْ الابتسامات عريضةً مجللة بالتحايا كأنها موجهة لبطل قومي: " أهلا بك بيننا ، أصبحتَ الآن جزء من الواقع ، نريد أن توقع معنا عقدًا لمدة طويلة حتى ينتهي الربيع العربي "!
ما توقّف هاتِفه عن الرنين من تلك اللحظة و لا بريده استوعب الرسائل الكثيرة من دورِ النشر ...!
و لكن نداء الحب ظل يعاتبه كلما خلد للنوم .
16:08