فِي مَقَامِ الِاسْتِمَاعِ وَالتَّحَدُّثِ ( 1 )
للدكتور محمد جمال صقر
تقدُّم الاستماع على التحدث
لا ريب في أنه ينبغي أن يُحَدِّثَنا أحد ونستمع إليه، حتى نتعلم منه فنتحدث. وإذا تأملنا تاريخ الإنسان في الثقافة العربية الإسلامية بنص القرآن الكريم: "عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا" - اطلعنا على أن سيدنا آدم -عليه السلام!- استمع في مبتدأ وجوده إلى الحق -سبحانه، وتعالى!- فتعلم منه وتحدث. بل إذا تَنَاسَيْنَا أصولنا الثقافية العربية الإسلامية -وينبغي ألا ننساها أبدا- وجدنا الإنسان قد استمع منذ أوليته إلى أصوات الكائنات من حوله، وفهم لها وُجوهًا من المعاني، فتعلم منها وقَلَّدَها. ثم مِمَّا تعلمه بالتَّلَقِّي أو التَّقْليد وَلَّدَ ما لا حصر له مما تواضع عليه الناس فيما بعد.
تداخل الاستماع والتحدث
إن الاستماع إذن أسبق من التحدث، وهو أبو الملكات اللغوية كما نص ابن خلدون؛ فهو منفذ المهارات اللغوية الأكبر الذي يعول فيها عليه قبل غيره. والتحدث وثيق التعلق بالاستماع؛ إذ هو وجهه الآخر من التخاطب، ينبغي أن يراعى تَعَلُّقهما في تطوير مهارتي الاستماع والتحدث جميعا معا، بحيث نذكر في مقام الاستماع مقامَ التحدث؛ فنفكر في المهارة من وجهة تَحَدُّثيَّة، كلما فكرنا فيها من وجهة استماعيَّة.
معايير الاستماع والتحدث
ومن ثم نحب أن نتعرض لما يمكن تسميته معايير الاستماع والتحدث، أي مقومات وجود كل منهما، التي ينبغي أن يراعيها المستمع لأن المتحدث يراعيها- تَعَرُّضًا واحدا، بحيث يكون المعيار الواحد لهما معا، على النحو الآتي:
1 المعيار الاجتماعي (علاقة المستمع بالمتحدث): تُرى ما منزلة المستمع من المتحدث؟ أهي منزلة امرأة من رجل، أم رجل من امرأة، وصغير من كبير، أم كبير من صغير، ومتعلم من معلم، أم معلم من متعلم، ومرؤوس من رئيس، أم رئيس من مرؤوس...؟
2 المعيار اللغوي (أسلوب التعبير): ترى ما نوع الكلام المتردد؟ أهو قديم أم حديث، ومجهَّز أم مرتجل، ومقنع أم مخادع، وواضح أم غامض، وعلمي أم فني، وشعر أم نثر، وقوي أم ضعيف، وحسن أم قبيح...؟
3 المعيار القصدي (غاية المراد): ترى ما وراء هذا الكلام؟ أهو التبشير أم التنفير، والتقريب أم التبعيد، والإقناع أم القهر...؟
فإن لفهم طبيعة علاقة المستمع بالمتحدث، وتمييز أسلوب التعبير، وتحديد غاية المراد من الكلام- لأثرا واضحا في حسن اختيار مجال الاستماع والتحدث.
مجالات الاستماع والتحدث
وإذا كانت تلك الثلاثةُ معاييرَ الاستماع والتحدث اللازمة جميعا معا، فإن للكلام مجالاتٍ لا يكاد يخرج عن أيِّها من يستمع إليه أو يتحدث به، ينبغي ألا تغيب عن أيٍّ منهما، على النحو الآتي:
1 مجال الألفة (التحبب والتلطف): وفيها يتجلى حرص المستمع والمتحدث جميعا معا، على: تأسيس الصداقة، وحسن المعاملة، وتحسين الصورة، وتمكين الحرية، وتيسير الفهم، وكسب الولاء، وبث الثقة، وتقديم الخدمة.
2 مجال المتعة (الاستمتاع والإمتاع): وفيها يتجلى حرص المستمع والمتحدث جميعا معا، على: إلهاء الوعي، وترويج الشهوة، وقطع العادة، ونسيان الهم، وترفيه النفس، وتجميع النشاط، وتغذية الذوق، وتزكية الوُجدان.
3 مجال الفائدة (الاستفادة والإفادة): وفيها يتجلى حرص المستمع والمتحدث جميعا معا، على: فضل العلم، وانتهاز الفرصة، وتفاوت التفكير، وإهمال الظن، وحفظ المكانة، وطلب الاستعلاء، وتحديد المراد، ومنع التجاوز، وتحمل المسؤولية.
4 مجال الحجة (الاقتناع والإقناع): وفيها يتجلى حرص المستمع والمتحدث جميعا معا، على: قوة التأثير، وعدم الإكراه، وتنمية الحوار، وتحصيل الاقتناع، وقبول السلطة، وشمول التأثير، وحسن التربية، وتجنب الإعراض، وحسن التأويل، واستواء الخيارات.
فإن لتمييز مجالات الاستماع والتحدث بعضها من بعض، ثم تحديد المجال المناسب- لأثرا واضحا في حسن توجيه رسائل الاستماع والتحدث.
رسالة الاستماع والتحدث
في مجال الاستماع والتحدث المناسب، تَتَكَوَّن الرسالة المحددة التي يستقبلها المستمع ويرسلها المتحدث، ويدل عليها العنوانُ الذي يستطيع المستمع أن يُعَنْوِنَ به ما استمع إليه، والمتحدث أن يُقَدِّمَهُ بين يدي ما سيتحدث به.
إن تحديد هذه الرسالة بخلاصة المراد، داخل المجال المعين بضوابط المعايير السابقة- لهو اكتشاف ممتع للمستمع والمتحدث جميعا، ينبغي أن تتبارى في تحصيله العقول ويتنافس المتنافسون. ولا سبيل إلى تحديد هذه الرسالة إلا باستيعاب ظاهر الكلام (لفظه) وباطنه (معناه)، والاستعانة بباطنه على ظاهره وبظاهره على باطنه من غير إهمال ولا كسل، حتى تتحدد الرسالة، ويتأكد الاكتشاف الممتع؛ فإن ظاهره (لفظه) وباطنه (معناه)، يكونان معا، ويتحركان معا، ويصلان معا.
وأطرف ما في وجود هذه الرسالة التي يدل عليها عنوانها، أنها على عكسه؛ فإن العنوان آخر ما يكتب، ولكنه أول ما يقرأ- وإن الرسالة أول ما يثير الاستماع والتحدث، ولكنها آخر ما يُحَدَّد! يعالج المستمع والمتحدث لفظ الكلام ومعناه علاجا أَوَّلِيًّا، ثم يظلان يُديرانه ويركِّبانه ويُداخِلانه حتى يَعْقِدا عُقْدَتَه، وما عُقْدَتُه إلا رسالته المحددة.