قضاء حديثة و مدن اعالي الفرات
بعد ان تتمتع بجمال الطبيعة والأشجار والنهر في البغدادي، تواصل الرحلة باتجاه المدينة التالية، حديثة، وقبل ان تدخلها، عليك ان تكون حذراً في الشتاء عند وصولك الى وادي حوران.
في هذا الطريق بين البغدادي وحديثة، توجد بعض الوديان التي تنقل مياه السيول من عمق الصحراء الى الفرات، وتشاهد على اليمين بين الحين والآخر النهر وبضع أشجار على ضفافه، لكن المسافرين كانوا يتحسبون لوادي حوران، وهو ذات الوادي الممتد من الأراضي السورية والأردنية مخترقاً الصحراء الغربية، ليصل الى الفرات قبل مدينة حديثة، ويجمع مياهاً هائلة في موسم الأمطار، وهي مياه تندفع بكميات مدمرة وبسرعة يصاحبها دوي مخيف لترتمي في الفرات.
وهنالك واد آخر أقل أهمية هو وادي زغدان، لكن وادي حوران هو الذي يستدعي الحذر، ويجتازه المسافرون بسرعة خلال الشتاء خشية من اندفاع السيول فيه دون سابق انذار. كنا في قضاء عنه أيام الحكم الملكي نرى مرة أو مرتين في السنة، سيارة (فان) يتجمع الأهالي في ساحة واسعة لمشاهدة أفلام تعرضها السيارة على شاشة توضع على الحائط، ويوزع القائمون عليها مطبوعات كلها دعاية أمريكية مثل الأفلام التي تعرض علينا.
وحصل ذات مرة أننا كنا نتوقع وصول هذه السيارة، لكنها لم تأتِ، وفهمنا بعد حين ان سائقها مارس عنجهية أسياده في السفارة الأمريكية ببغداد، وحاول اجتياز وادي حوران قبل ازدياد السيول، وما أن أصبح بسيارته ومعداتها في بطن الوادي، حتى جاءته فجأة سيول عارمة فطمرته وقذفت بالسيارة في الفرات، وانتشلت جثثهم بعد يومين.
وحصل الأمر ذاته مع سيارات حاول سائقوها المغامرة، فأغرقتهم السيول في وادي حوران، حتى أقامت شركة حمورابي العامة للمقاولات الانشائية جسراً حديثاً عليه في السبعينيات من القرن الماضي.
لن تستطيع دخول قضاء حديثة دون ان تمر ببلدة الحقلانية الملاصقة لها، وهما اللتان تحاصرهما قوات الاحتلال منذ منتصف في آذار (مارس) 2005، وما تزال، وتقصفهما بالمدفعية والطائرات، وحالها هو حال مدن الفرات الأخرى.
يقع بين البلدتين، واد يسمى وادي حقلان يجري فيه الماء من عيون بين الصخور، وعليه قنطرة تسمى الجسر العباسي، وأضرت به تداعيات الزمن، فأقامت الدولة جسراً حديثاً على مقربة منه.
لم تكن الحقلانية سوى بلدة صغيرة، واتسعت تدريجياً نتيجة اتساع النشاط في محطة ضخ كي. ثري (K 3) التي تمتد أنابيب النفط اليها من كركوك، واشتغل فيها رجال المدن المجاورة، حديثة وعنه وهيت والمعاضيد، في مهن الميكانيك والكهرباء وسياقة السيارات.
وتعبر في هذه الرحلة جسر وادي الحقلانية، لتدخل واحدة من مدن الأنبار المشهورة، حديثة التي تنام على ضفاف الفرات مباشرة، لكنها تختنق بين النهر وبين الجبل، لذلك فهي مثل عنه القديمة، مدينة تتميز بالطول، دون ان يتجاوز عرضها 200 - 300 متر، وتنتشر فيها البيوت والبساتين وأشجار الفاكهة والنخيل والنواعير، وأضافت لمنتجاتها الأسماك بعد انشاء سد القادسية والبحيرة بالقرب منها، وازدادت بذلك مساحات أراضيها الزراعية.
في عام 1965 أصبحت حديثة قضاءاً بعد ان كانت ناحية، وهي من مدن العراق القديمة، ربما من العهد البابلي، وفيها بقايا قلعة ومواقع أثرية، وحل فيها المسلمون أيام الخليفة عمر بن الخطاب، وذكرها ياقوت الحموي. وفيها مزارات دينية وأضرحة لعدد من الأولياء والشيوخ، ومنها أضرحة الشيخ نجم الدين، والشيخ حديد، والشيخ محمد السيد علي، وبعضها تعرض بعد الاحتلال الحالي لمحاولات تخريب من قبل أشخاص جاءوها من خارجها، وأتضح بعد الامساك بهم بأنهم قاموا بهذا التخريب للأضرحة مقابل أجور مالية دفعها لهم بعض من يتحدث هذه الأيام عن الديمقراطية المحمولة جواً!
وحديثة مدينة ذات جانبين، أحدهما يقع على الضفة الأخرى من النهر، ويسميهما الحديثيون الشامية والجزيرة، بكسر الميم، يجري التنقل بينهما بالزوارق (البلام ومفردها بلم)، لكن شركة النفط أقامت جنوب المدينة عبّارة ميكانيكية يسمونها (فيري) قادرة على حمل السيارات، اضافة الى معبر معلّق يدعى (بلوندي) يشبه التلفريك أو Cable Car، مخصص للشخصيات فقط من كبار مهندسي الشركة البريطانية وربما الموظفين الاداريين الكبار.
وفي وقت متأخر، أقامت بلدية المدينة جسراً عائماً على الطوافات، أو (الدوبة) باللهجة المحلية ليربط الشامية والحويجة، وهي جزيرة تتوسط الفرات، وآخر يربط الحويجة بالضفة الأخرى من النهر (بروانة) وكلها جزء لا يتجزأ من حديثة وأهلها وبساتينها.
ومكنّت بساتين حديثة وأشجارها وتلولها الصخرية وكهوفها الكثيرة والوعرة، رجالها من استهداف القوافل العسكرية الأمريكية، وضربها والاختفاء بسرعة. ان أهل المدينة هم من يدافع عنها وعن العراق، وليس كما يزعم الاحتلال واتباعه بأنها تأوي من غادر الفلوجة اليها. وعلى سد القادسية في حديثة بالتحديد، انتبه العالم كله على أول عملية مقاومة انتحارية استشهادية ضد القوات الغازية في نيسان (أبريل) 2003 وقبل ان تحكم قوات الاحتلال الأمريكي قبضتها على العراق.
تقدمت سيدتان من موقع عسكري أمريكي على جسر السد، وصرخت احداهن من السيارة طالبة النجدة والاسعاف لزميلتها الحامل، وما أن اقترب جنود الاحتلال منهما، حتى فجرتا السيارة بتجمع الجنود، وسجلتا مأثرة، يواصل المتتبعون لسجل الاحتلال الاشارة اليها.
ونعود الى ذكر بعض رجال حديثة الذين تداولت الأحداث أسماءهم، ومنهم الشيخ مهدي الصميدعي الأمين العام للدعوة والارشاد، الأسير لدى الاحتلال منذ شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 2004، وناجي صبري الحديثي، آخر وزير خارجية قبل سقوط العراق بيد قوات الاحتلال، ووزير خارجية آخر أسبق هو مرتضي سعيد عبدالباقي، ورجال فكر وثقافة وتاريخ، بينهم أستاذ التاريخ نزار الحديثي الذي أصبح في السنوات القليلة الماضية نائباً لرئيس المجمع العلمي العراقي، وأصدقاء ومعارف بدون عدد.
المعاضيد
وما أن تعود من حديثة الى الحقلانية لتتجه الى قضاء عنه، كان الطريق في الماضي محفوفاً بالخطر، وأقامت الدول بعد ذلك طريقاً حديثاً معبداً يمتد من أبو غريب الى القائم، وبذلك زال ذلك الخطر.
وقبل تعبيد الطريق، كان سائقو السيارات يقودون مركباتهم هنا بدقة وعناية، لانهم يعرفون بأن أي انحراف أو فقدان أثر الطريق سيقودهم الى (الخسفة). والخسفة كانت مناطق رميلة هشة تبتلع السيارات في الصحراء، وضاع فيها فعلا بعض السيارات بركابها.
وبعد التخلص من قلق الخسفة، كانت هنالك في وسط وحشة الصحراء والمجهول، نخلة صغيرة زرعها أحدهم، وأصبحت واجباً لكل سائق يمر بها، بالاتجاهين، ليقف ويسقيها من ماء (الجود) الذي يحمل الماء للشرب واضافة بعضه الى راديتير السيارة أو لسقي تلك النخلة. ومنذ ان تم تعبيد الطريق، لم أعد أعرف ماذا حل بتلك النخلة.
بعد حين، تصل الرحلة الى مخفر الفحيمي على التل الواقع عند الوادي بنفس الاسم. انه مجرد مخفر شرطة وبقربه مقهى، ولا شيء سواهما، ويقال انه كان نقطة تفتيش المسافرين والبضائع بين العراق وسورية قبل ان ينتقل طريق السفر الى سورية عبر الرطبة في العشرينيات من القرن الماضي.
يطل المخفر والمقهى على الفرات، ومنه ترى على الضفة الأخرى ناحية المعاضيد، التي تتبع قضاء حديثة ادارياً، وشيخها آنذاك معروف جداً هو الشيخ عيادة، والد الدكتور خاشع الذي تولى منصب عميد كلية الآداب بجامعة بغداد قبل عدة سنوات، وتلقى خاشع تعليمه الثانوي في قضاء عنه، كما هو الحال مع مرتضي سعيد عبدالباقي الحديثي، حينما كانت حديثة أو المعاضيد تفتقران لمدرسة ثانوية.
ولم تكن حديثة والمعاضيد تفتقران للمدارس الثانوية فحسب، بل انهما كانتا خاليتين حتى من دائرة تسجيل النفوس، وكان تسجيل مواليد حديثة الجديدة يتأخر كثيراً حتى يتسنى لمختارها محي المجيد السفر الى قضاء عنه لتسجيل الولادات، وكان يسافر مرة أو مرتين في السنة لهذا الغرض، وهو بهذه المناسبة عم وزير الخارجية السابق ناجي صبري الحديثي.
ومن المعاضيد، جاء عبدالرحمن البزاز، والبزاز هي الصفة التي اكتسبها من والده عبد اللطيف، ويطلقها العراقيون على تجار الأقمشة وباعتها. وتزوج عبدالرحمن عام 1945 من ابنة خاله، العلامة نجم الدين الواعظ، وهو آخر مفتي للعراق وتوفي عام 1975.
اصبح عبدالرحمن البزاز في منتصف الخمسينيات عميداً لكلية الحقوق وأقصته الحكومة من منصبه عام 1956، فمارس المحاماة حتى ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 وعاد عميداً لنفس الكلية. وأصبح في عام 1963 أول سفير للعراق لدى الجمهورية العربية المتحدة، ثم في عام 1965 رئيساً للوزراء مرتين، الأولى في عهد الرئيس عبدالسلام عارف، والثانية في عهد الرئيس عبدالرحمن عارف.
توقف هبوط الطريق الى وادي الفحيمي في منتصف الثمانينيات بعد ان جرى بناء جسر حديث عليه. ومن هنا تبدأ الرحلة الى قضاء عنه، وتدريجياً تحيط بالطريق البساتين والنخيل والأشجار والمزارع والنهر، انه دائماً الفرات. وقبل ان تصل الى المدينة ستجد الى يمين الطريق قرية صغيرة أسمها (حبين) برفع الحاء وفتح الياء وسكون الباء والنون، وهي تابعة لقضاء عنه ادارياً.
تلتقط الأنظار بعد ذلك (الكصر) التي تكتب فوق كافها شارحة طويلة (-)، وتعني القصر، وهو ليس قصراً، ولا يوجد أي قصر بالقرب منه. انه جسر متوسط الطول على وادي تتدفق فيه مياه السيول العاتية لتصب في الفرات. وحال عبور هذا الجسر، تصبح ضمن حدود عنه الادارية، والى هنا جرى نقل عنه بعد ان غمرتها مياه بحيرة القادسية، واصبحوا يسمونها عنه الجديدة.
في هذه المدينة، عشت طفولتي والشباب، وأفتخر باكتسابي لاخلاق أهلها وثقافتهم وايمانهم وروحهم الوطنية. ويتخيل بعض الأصدقاء من شدة معرفتي بهذه المدينة أنني عانياً، ولكنني مع الشرف الذي نلته من أهل عنه وراوه، لست عانياً أو راوياً، وانما بغدادي أصيل. حتى ان الصديق ناجي صبري الحديثي قد فوجئ ذات مرة وهو في نيويورك بصفته وزيراً للخارجية بأنني لست عانياً فعلاً، عندما كنا نتحدث في أحداث الماضي.
وقضاء عنه هي مدينة يتماسك سكانها في أحياء تسمى محلات، وتتوالى هذه المحلات الواحدة بعد الأخرى على امتداد ضفة الفرات، وتتسم بالطول دون ان يتجاوز عرض المدينة 200 - 300 متر بين النهر والجبل.
وقد تداخلت محلاتها مع بعضها في عنه الجديدة، وأصبحت المحلة التي كانت بعيدة عن مركزها في المدينة القديمة، محلة قريبة من المركز حيث مقر القائمقامية والشرطة والبلدية والادارة
ومحلاتها، عكس مجرى النهر هي:
محلة جميلة برفع الجيم
محلة الشريعة
محلة الخطبة برفع الخاء وتشديد الباء
محلة السّدة
محلة شعيفة
محلة حقون، ويلفظها العانيون (حكون) بالكاف التي فوقها شارحة طويلة(-) وفيها
السراي ودوائر الادارة، وهي مركز المدينة.
محلة غازي التي أصبحت الجمهورية بعد قيام النظام الجمهوري عام 1958
محلة كُحلي
محلة دلة علي
محلة الحوش، ويقطن في بعض بيوتها (السواهيك) وهم من راوة أصلاً
محلة العباسية، وتسمى الرأس الغربي الذي يواجه مدينة راوة على الضفة الأخرى من الفرات,
وهي محلة ناقل الموضوع
أما محلات المدينة الأخرى فلا تواجهها على الضفة الأخرى أية مظاهر سكن، وهي مجرد مرتفعات صخرية ممتدة على طول الضفة، لكن في وسط الفرات توجد عدة جزر مأهولة، تكثر فيها أشجار النخيل والفواكه وزراعة الخضراوات، وأشهرها جزيرة الحضرة، وجزيرة الرأس الغربي، وجزيرة الشيخ، وجزيرة نصّار مقابل السراي، وجزيرة الحاج شريف، وهو ذاته رجل الدين والد الشخصية العراقية المعروفة عزيز شريف، وأكبرها جزيرة القلعة التي يجري العبور اليها بالزوارق الكبيرة، وفيها القلعة التاريخية ومنارتها المشهورة. وفي الصيف تظهر عند انحسار مياه النهر الجزر الرملية (الطينة) وتستغل لزراعة الخضراوات الصيفية.