مفهوم الغير
الغير موجود ولكن بأية كيفية؟ هل يمكن معرفة الغير بالعقل والتحليل كما تعرف الأشياء في العلوم؟ أم لا يمكن معرفته إلا ذاتيا عبر الصداقة والحب؟ ما طبيعة العلاقة معه؟ هل هي عدوانية صراعية أو ودية إيجابية؟
بشكل عام: يمكن القول أن الغير هو الذي يشبهني، ويختلف عني، ويوجد خارجي بالرغم من أنه ذاتا، ويفرض علي الاحترام.
قارن بين القولين: يقول ديكارت: أنا أفكر إذن أنا موجود"
ويقول سارتر: "أنا في حاجة لوساطة الغير لأكون كما أنا".
يتجسد الغير واقعيا في عدة أوجه منها: الغير عائق، الغير وسيلة، الغير منافس، الغير شريك، الغير شخص، الغير لغز، الغير مهمش...
المحور الأول: وجود الغير
الغير موجود لكن الاختلاف يكمن في كيفية إدراك وجوه. فقد يدرك كشيء مثل بقية الأشياء باستعمالنا للحواس والعقل، وقد يدرك كذات عبر ما يشكل ذاتيتنا.
وستعكس مواقف الفلاسفة اختلاف الغير عن الشيء وصعوبة إدراكه ومعرفته بالوسائل التقليدية.
ميرلوبونتي: يصعب على الفهم العلمي للعالم والذي يقدم نفسه كفهم موضوعي أن يفهم ويعرف الغير.
فالغير ليس مجرد شيء. إنه مزدوج التكوين: فهو جسد ووعي في نفس الوقت.
فالعلوم تتطرق للجسم أي الشيء وتعجز عن الوصول للوعي المختبئ داخل اللحم النيئ حسب تعبير ميرلوبونتي.
ويقود هذا الوضع المزدوج إلى التمييز بين مكوني الغير:
- فهو وجود في ذاته (جسم) ووجود من أجل ذاته (وعي).
وتنتج عن هذا الأمر مفارقة صعبة فلكي أحدد وجود الغير علي أن أتعامل معه كشيء (وجود في ذاته) وكوعي (وجود لذاته). وهذا ما يعجز عن فعله الفكر العلمي الذي يتميز بالموضوعية: يعجز عن الاعتراف بالغير باعتباره تعددا للوعي. كيف يمكنه أن يعترف بوجود ما هو متعدد ومتغير ولا يخضع للتعميم والتقعيد؟؟
- إذن يود الغير كأنا وكوعي وليس كجسم أو شيء.
يقول ميرلوبونتي: "لا يمكنني النفاذ إلى الغير إلا لكونه أنا. ولأن المفكر والمفكر فيه يختلطان داخل الغير، فلا مكان للغير ولتعددية الوعي في الفكر الموضوعي".
سارتر: يوجد الغير كأنا آخر كما يوجد كوسيط بيني وبين ذاتي.
في الحالة التي يوجد فيها الغير كأنا آخر، فهو يوجد خارجي رغم أن له أنا مثلي، لهذا أدرك وجوده كموضوع كما أبدو له أنا أيضا كموضوع.
لكن الغير يقوم بدور مزدوج: سلبي وإيجابي: فهو يمكنني من معرفة ذاتي عبر تمكيني من اكتساب تجارب لا أستطيع اكتسابها بدونه مثل تجربة الخجل أو الكبرياء.... لكنه في نفس الوقت يحد ممن حريتي لأنني اكتشف أن خجلي لا معنى له إلا أمامه وبسببه.
المحور الثاني: معرفة الغير
تتراوح معرفة الغير بين الإمكان والاستحالة. فإذا انطلقنا من الغير كذات مغلقة فلا يمكن آنذاك معرفته، لكن إذا انطلقنا من الغير كعنصر داخل الجماعة ونتيجة لهذه الجماعة فيمكن آنذاك معرفته. لكن طبيعة هذه المعرفة تظل موضع إشكال. فمعرفته من زاوية التحليل النفسي مثلا ممكنة لكن إلى حد يمكن أن تكون معرفة حقيقة؟
بيرجي: التجربة الذاتية هي الوجود الحقيقي للغير، وهي تجربة مغلقة لا تقبل النقل إلى الآخرين. فالذات هي عبارة عن حميمية وسجن وعزلة ووحدة وعالم سري. لهذا فذاتي موصدة أمام الغير وذات الغير موصدة أمامي. وكمثال على ذلك تجربة الألم: فألم الغير يؤكد انفصاله عني وانفصالي عنه، فحينما يتألم صديق لي أواسيه، لكنه مع ذلك يتألم وحده وهي تجربته الشخصية وليست تجربتي. نحن نتألم لأسباب مختلفة وبدرجات متفاوتة.
مالبرانش: الغير هو عالمه الداخلي الروحي النفسي العقلي وليس جسمه. لذلك لا يمكن أن أعرفه عن طريق العقل والوعي لاختلافه عني. وإذا افترضنا أن نفوس الآخرين وعقولهم تشبه نفوسنا وعقولنا واستنتجنا من ذلك أن ما نشعر به هو ما يشعرون به أي عبر المماثلة فإننا سنرتكب خطأ كبيرا.
لذلك لا مكن للذات أن تعتبر نفسها مقياسا لمعرفة الغير.
ميرلوبونتي: أعرف الغير عبر سلوكاته (مثل الحزن والغضب) كما تظهر على جسده بشكل خارجي عبر يديه ووجه، لأنني لا يمكنني أن أنفذ إلى تجربته الداخلية. لهذا لا يمكنني أن أعتبر هذه السلوكات الخارجية أساسا لمعرفة الغير لأن الغير لا يختزل إلى سلوكاته الخارجية: فأنا أدرك حزنه كما يظهر على جسده، إلا أن حزنه ليس هو مظهر حزنه، كما أن معنى حزنه عنده ليس هو معنى حزنه عندي.
فهو يعيش حزنه، بينما أنا أشاركه الحزن الذي يعيشه، هو يحزن لسبب محدد بينما أنا أحزن لحزنه.
نحن مختلفان لكن ما يجمعنا هو المشترك، التجربة المشتركة وهي ليست وضعيته ولا وضعيتي وإنما وضعية ثالثة.
المحور الثالث: العلاقة مع الغير
قد تكون العلاقة مع الغير صراعية وقد تكون إيجابية ودية. فالغير قد يكون منافسا وقد يكون صديقا.
كانط: "الصداقة هي اتحاد بين شخصين يتبادلان الحب والاحترام" وهي "عاطفة متبادلة بين شخصين أساسها الاحترام وخالية من الجنس" كتعريف عام.
لا يجب أن تقوم الصداقة على المنفعة، بل يجب أن تقوم على الواجب الأخلاقي الذي أساسه الاحترام.
الحب بين الصديقين: قوة جذب
الاحترام بين الصديقين: قوة تباعد
أي: الصديق ينصح الصديق (حب)، والصديق يخطئ في حق الصديق (إخلال بالاحترام) والصداقة لا تقوم على المنفعة (البقاء مع الصديق وتحمله).
كريستيفا: الغريب لا يوجد خارجنا. ليس هو العدو الذي يأتينا من خارج مجتمعنا. الغريب هو قدرتنا على النظر إلى أي إنسان كغريب، إنه موقف يوجد فينا، الغريب يسكننا. هو ما يجعلنا ننظر حتى لأعضاء جماعتنا كغرباء لأننا لا نقبل الاختلاف. وهكذا فاختزال الغريب إلى من لا يملك مواطنة البلد الذي يقيم فيه أمر سطحي