35 عاما مرت على بناء السد العالى وترويض أعظم أنهار الدنيا.. ابن
الهيثم أول من فكر ببنائه.. ومهندس يونانى قدم الفكرة لعبد الناصر.. وتجاهل
حكومة قنديل لملف النيل يهدد مصيره.. ومخاوف من تحوله لمجرد قنطرة الجمعة، 11 يناير 2013 - 01:15
السد العالى
كتبت أسماء نصار
53 عاما مرت على المواجهة الكبرى بين مصر بزعامة عبد الناصر،
والبنك الدولى بقيادة الغرب والولايات المتحدة.. 53 عاما مرت على قرار جرئ
اتخذه رئيس تمتع برؤية استراتيجية بعيدة المدى.. رئيس سعى لتحقيق مشروع
وطنى متكامل وحقيقى يحقق الاستقلال لوطن عانى من الاحتلال لآلاف السنين..
53 عاماً مرت على بناء أعظم مشاريع القرن الهندسية الذى روض أعظم أنهار
الدنيا وكبح جماح فيضانه العظيم.. 53 عاماً مرت على مشروع الثورة الأعظم
والأكبر.. 53 عاماً مرت على بناء السد العالى ملحمة البناء التى أثبتت أن
المصريين لا يزالون أعظم البنائين بين شعوب الأرض.
ولكن يبقى السؤال المطروح الآن هل يستطيع السد العالى أن يقف أمام
التحديات الكبيرة التى ستواجهه فى القريب العاجل وأهمها غياب دوره
الاستراتيجى فى تأمين الاحتياجات القومية من المياه خاصة فى سنوات الجفاف
التى قد تصل لـ7 سنوات متصلة، بعد عزم وقيام عدة دول ببناء مشروعات سدود
وعوائق مائية ضخمة، إما لغرض توليد الكهرباء أو الزراعة أو الاثنين معا.
وهل ما قام به مسئولو ملف المياه، وخاصة الوزراء السابقين ومنهم الدكتور
محمود أبو زيد والحالى الدكتور محمد بهاء الدين، فى أنهم يغضون الطرف عما
يحدث فى أعالى النيل دون التدخل أو طلب المساعدة من الجهات السيادية فى
مصر، بما سيؤثر تأثيراً بالغ السوء فى تقليل كميات المياه الواصلة إلى مصر
خاصة فى فترات الجفاف وذلك لحجزها خلف السدود الأثيوبية والسودانية بعد
توسيع سعتها التخزينية ورغم خطورة كل ما سبق إلا أن أحدا لم ينتبه بشكل
حقيقى لهذا الخطر الذى يهدد حياة ملايين البشر فى مصر.
البداية
أول من فكر فى بناء سد بمصر لترويض النيل والتحكم فى فيضانة وجفافه كان
العالم العربى الشهير الحسن بن الهيثم ويُعرف عنه أنه قال –حين سمع عن بعض
خصائص نهر النيل: "لو كنت بمصر لعملت عملاً يحفظ ماءه ويحصل به النفع فى كل
حالة من حالاته من زيادة ونقص فقد بلغنى أنه ينحدر من موقع عالٍ وهو فى
طرف الإقليم المصرى".
فسمع الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله ما قاله ابن الهيثم وهو الذى عرف مؤلفاته التى تربو على العشرين فى علـم الهندسـة فقـط.
فأرسل يدعوه لزيارة مصر وإجراء الكشف الدقيق على نهر النيل ودراسته دراسة
علمية ميدانية ويُروى أن الخليفة الحاكم بأمر الله خرج من القاهرة
لاستقباله فى الطريق احتفاءً به وتكريماً له لمنزلته العلمية الكبيرة.
وبقى ابن الهيثم فى القاهرة عدة أيام ضيفاً كريماً على الخليفة حتى حان
موعد العمل فاختار من بين علماء مصر وبنائيها ومهندسيها مجموعة طيبة وخرج
متتبعاً نهر النيل من القاهرة حتى جنوب أسوان، وكانت رحلة علمية خالصة دوّن
خلالها ملاحظاته وعاين مواقع جريان النهر ودرس حوضه دراسة ميدانية متأنية،
وأقام عدة أيام فى أسوان. فهل فكّر وقتها يا ترى بإقامة سد لخزن المياه
هناك؟ إذا لم يكن كذلك فما معنى قوله: (لو كنت بمصر لعملت بنيلها عملاً
يحفظ ماءه ويحصل به النفع فى كل حالة من حالاته من زيادة ونقص؟).
وحين عاد إلى القاهرة رفع تقريره إلى الخليفة، ولا أحد يعرف بالضبط ما الذى
كتبه فى هذا التقرير، ولم يحفظ لنا التاريخ الحوار الذى دار بينه وبين
الحاكم بأمر الله، كل الذى وردنا أنه كان خجلاً، يائساً، وأنه أخبر الخليفة
بأن الفكرة التى يروم تحقيقها صعبة التنفيذ.
وبعد مرور أكثر من هذا الحدث الفريد تقدم المهندس اليونانى"دانينيوس"
بمشروعه إلى مجلس قيادة الثورة، والذى حظى باهتمام كبير من جانب القيادة
الثورية وكلف قائد الجناح جمال سالم عضو مجلس قيادة الثورة بتولى مسئولية
هذا المشروع إلى جانب الفنيين فى المجالس والهيئات المتخصصة الذين سيتولون
البحث والدراسة.
تم تشكيل لجنة فرعية تضم عدداً من أعضاء مجلس قيادة الثورة وأعضاء مجلس
الإنتاج من الخبراء والفنيين برئاسة جمال سالم لإجراء مزيد من البحث
والدراسة لهذا المشروع، وعقدت اللجنة عدة اجتماعات فى مقر مجلس قيادة
الثورة بالجزيرة، حضر بعضها المهندس اليونانى دانينيوس، وانتهت بعد دراسات
مستفيضة إلى الإقرار بجدوى المشروع وضرورة تنفيذه وقدمت أيضا توصيات بهذا
المعنى لمجلس قيادة الثورة الذى وافق من حيث المبدأ على تنفيذ المشروع
والبدء فى اتخاذ الخطوات العملية فى هذا الشأن.
وكانت الخطوة الأولى هى تنظيم سلسلة من المحاضرات عن السد العالى، وبدأت
بمحاضرات وندوات فى نادى ضباط الجيش بالزمالك تحدث فيها عدد من المهندسين
المتخصصين وشرحوا أبعاد المشروع وما ينتظر منه من عائد، كما عقدت سلسلة
محاضرات أخرى فى نقابة المهندسين، وفى جمعية المهندسين المصرية استهدفت
كلها تهيئة الرأى العام على المستويات العلمية والسياسية والشعبية لهذا
المشروع.
التمويل
وأخذ عبد الناصر يبحث عن مصادر لتمويل الحلم القومى"السد العالى" وعرضه على
البنك الدولى للإنشاء والتعمير الذى أكد فى تقرير نشره فى شهر يونيو عام
1955 سلامة المشروع، كما أكد أن مصر اعتمدت ثمانية ملايين دولار لتنفيذ بعض
الأعمال التحضيرية للمشروع وتشمل إنشاء خطوط للسكك الحديدية، ومساكن
للعاملين فى الموقع.
وفى أغسطس من نفس العام أصدر البنك تقريرا آخر يؤكد قدرة الاقتصاد المصرى
على تنفيذ المشروع، وفى سبتمبر من نفس العام أعلنت بعض الشركات الألمانية
الغربية والفرنسية والبريطانية تقدمها بعروض للمشاركة فى تنفيذ المشروع فى
شكل"كونسورتيوم".
فى هذا الوقت وبالرغم من سياسة عدم الانحياز، كان عبد الناصر قريبا من
الكتلة الشرقية، وجاء اعترافه ''بالصين الشيوعية'' ثم عقده ''لاتفاقية
التسليح التشيكية'' بمثابة صدمة للمعسكر الولايات المتحدة والدول معها، مما
أدى بهم للمماطلة فى تمويل المشروع إلا بشروط تحد من تنامى دور مصر فى
المنطقة، وهى تحويل ثلث الدخل القومى لصالح مشروع السد وفرض الرقابة على
المشاريع الاقتصادية والمصروفات الحكومية، وضع ضوابط للحد من زيادة الإنفاق
والتضخم الحكومى، وعدم قبول مصر ديونا خارجية إلا بموافقة البنك
الدولى''.. كل هذا الشروط كانت كفيلة بفرض احتلال اقتصادى على مصر.
عرض الاتحاد السوفيتى استعداده للمساهمة فى تمويل السد من خلال المعونات
الفنية والمعدات والأموال وسدادها خلال 25 عاما، لكن مع كل ذلك كان لابد من
حل يكفل استقلال المشروع والبلد.
تأميم قناة السويس
فى 26 يوليو 1956 ''كان '' الحل المصرى لتوفير التمويل اللازم لانطلاق
مشروع "الحلم القومى"، وصدر القرار بأن تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس
البحرية شركة مساهمة مصرية، وينتقل إلى الدولة جميع ما لها من أموال وحقوق
وما عليها من التزامات، وتحل جميع الهيئات واللجان القائمة حاليا على
إدارتها، ويعوض المساهمون وحملة حصص التأسيس عما يملكونه من أسهم وحصص
بقيمتها، مقدرة بحسب سعر الأقفال السابق على تاريخ العمل بهذا القانون فى
بورصة الأوراق المالية بباريس، ويتم دفع هذا التعويض بعد اتمام استلام
الدولة لجميع أموال وممتلكات الشركة المؤممة، وهو ما أشعل غضب بريطانيا،
وفرنسا وإسرائيل وكان العدوان الثلاثى أكتوبر 1956.
وضع حجر الأساس
فى التاسع من يناير 1960، وضع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر حجر الأساس
للحلم القومى، وتم تفجير أول شحنة ديناميت نسفت حوالى 20 ألف طن من
الصخور لتحويل مجرى نهر النيل لبدء بناء السد العالى الذى أقيم على مسافة
سبعة كيلو مترات جنوبى خزان أسوان.
وتكونت بحيرة السد لمسافة 500 كيلو متر منها 350 كم فى الأراضى المصرية
و150 كم فى شمال السودان لتكون بحيرة السد والتى تعرف ببحيرة ناصر أكبر
بحيرة صناعية فى العالم حتى الآن.
وفى 10 يناير من عام 1971 افتتح الرئيس الراحل محمد أنور السادات السد
العالى الذى اعتبرته الهيئة الدولية للسدود والشركات الكبرى أعظم مشروع
هندسى فى القرن العشرين''، من خلال دوره فى توفير رصيد استراتيجى من
المياه، والحماية من خطر الفيضان والجفاف، والتوسع فى الزراعة أفقيا ورأسيا
لأكثر من مرة فى السنة، وإنتاج كهرباء أكثر من تلك المنتجة من خزان أسوان.
علينا أن نترحم اليوم على شهداء الوطن الذين سقطوا من عمال وفنيين
ومهندسين وإداريين تحت وطأة هذا العمل الذى غير الحياة الاقتصادية
والزراعية والصناعية والاجتماعية والسياسية فى مصر والسودان.
علينا أن نترحم على من بنى على أكتافهم الحاضر الذى نعيشه الآن وهو أكبر
مشروع صناعى هندسى فى القرن العشرين والذى حمى مصر من الفيضانات المرتفعة
والمنخفضة وحول رى الحياض إلى حياض دائم، وأصبحت مصر بسببه من كبرى الدول
فى الشرق الأوسط فى إنتاج الطاقة الكهربائية ومصدرة لمكوناته مما غير
الحياة كاملة وهو أمر لا يعرف حجم قيمته إلا من عانوا قبل بناء السد من
جحيم فيضان النيل وجفافه.
وتأكيداً على أن السد العالى الذى صاحبه زخم كبير حول كونه حامى مصر
وأبنائها من تذوق سنوات القحط والجفاف، فيما يبدو أن السنوات القادمة ومع
استمرار هذا التجاهل بداية من المسئول الأول عن ملف المياه وهو رئيس
الوزراء الدكتور هشام قنديل ووزير الرى الحالى الدكتور محمد بهاء الدين سوف
تشهد مشكلة كبرى تتمثل فى تراجع أهمية وتأثير هذا السد خاصة أنه سيصبح
مجرد "قنطرة" لحجز المياه أو "كوبرى" لنقل السيارات من الضفة الشرقية إلى
الضفة الغربية فى محافظة أسوان وانهيار كافة الأساطير والحكايات عن دوره
وتأثيره على مشروعات التنمية فى مصر وأن هذا التراجع سوف يشهد التاريخ لمن
تسببوا فى ضياع دوره المحورى والمؤثر فى حاضر مصر ومستقبلها.
ومع هذا كله فإن هناك بارقة أمل سوف تأتى لهذا السد لاستعادة دوره ومقدراته
التى بنى من أجلها من خلال اعطاء الأولوية لملف حوض النيل والتعامل بجدية
كاملة وباستخدام كافة الأدوات المتاحة سياسيا واقتصاديا وإعلاميا غيرها
لخلق مناخ جديد يبنى على أثره تصورا جديدا للتعامل مع دول حوض النيل وخاصة
التنسيق والتعاون فى مجال تحديد الحصص بكل دقة لكل دولة من دول حوض النيل
فى أيام الرخاء والفيضانات العالية، وكذا فى أيام الجفاف وسقوط الأمطار
وكذا إدارة وتشغيل أى منشأ مائى قد يضر ويوقف التدفق الطبيعى لمياه النيل.
وإن أرادت دول حوض النيل حسن استغلال هذه الموارد لتعود على الجميع
بالمنفعة ليس أمامهم سوى التعاون الكامل والحقيقى والمتمثل فى مشروعات
مشتركة وإلا فهى الفرقة وضياع المصلحة على الجميع ويؤكد الجميع أن دول حوض
النيل مقتنعة بأنها لا يحق لها حرما دول المصب من الماء الذى تعيش عليها
وإنما هى دائماً وعبر التاريخ تسعى دول حوض النيل إلى إثارة هذه المشكلة من
أجل مزيد من التعاون والتقارب والمصالح مع مصر وأن ما تشهده الساحة من
خلافات بين دول حوض النيل لا يمثل سوى نسبة قليلة جدا من الإمكانات الكبيرة
المتاحة فى هذه الدول من ثروات وإمكانات هائلة يمكن لها أن تصل بهذه الدول
إلى مصاف الدول الكبرى.
ولن يحدث ذلك من خلال حرمان مصر من مياه النيل بل بالعكس ستزيد من أزمتها
وعزلتها وأن مصر تستطيع أن تعيش وتستمر ولكن خلق الأزمات لمصر هو طريق يجب
أن تحترس منه دول حوض النيل خاصة أن السياسات التى تمت فى عهد الرئيس
السابق ومستمرة حتى الآن فيما يبدو أن هناك نية مؤكدة لتغييرها خاصة بعد أن
أثبتت فشلها وأن مصر بما تمتلكه من مقدرات لم تقف مكتوفة الأيدى للدفاع عن
مقدرات شعبها الذى أصبح بعد ثورة 25 يناير صاحب السلطة وصاحب القرار
والمصلحة وأن أى مسئول لم يقم بدوره كما فى السابق ستتم محاكمته، وسيتم
إلغاء كل ما قام به وأساء به لمجتمعه ووطنه واتخاذ قرارات ثورية مؤثرة
وبمناسبة عيد السد، نتمنى لدول حوض النيل أن تعود إلى طاولة المفاوضات
والحوار مرة أخرى كأشقاء أصحاب مصير ومستقبل واحد.