سيره الخال .. الحلقة الخامسة .. «الأبنودى»: ذهبت لمحمد رشدى وهو يفكر فى الاعتزال وقلت له «ده زمنك انت مش زمن عبدالحليم».. فعاد بأغنية «تحت الشجر يا وهيبة»
الخميس، 14 نوفمبر 2013 - 07:55
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] الابنودى
حلقات يكتبها محمد توفيق
نقلا عن اليومى :
عبدالحليم قال لى: أنا عايز أغنّى اللغة بتاعتك.. لكن أنا ماقدرش أقول المسامير والمزامير زى صاحبك رشدى!
كتبت أغنية «عدوية» فى بنت كانت تعمل خادمة فى منزل ملحن صديقى!
قلت لـ«حليم»: «إحنا لو عملنا أغنية مافيهاش إننا دخلنا حرب وانهزمنا.. هننضرب بالجزم»
تَكرَّر هذا السؤال كثيرا لكنه فى كل مرة كان يحمل جديدا!
سأل صلاح جاهين، الأبنودى: «مافيش حاجة فى جيبك أنشرها؟ عشان مش قادر أرسم»، فرد عليه الخال: كاتب عن دودة القطن.. تلزمك؟.. «ماتقولش حاجات مقسومة.. ماتقولش الأيام سود.. قوم من أحلاها نومة.. وانجد قطنك من الدود».
فنشرَها جاهين، وحدث ما لم يتوقعه أحد.
فبمجرد نشر هذه الكلمات فى مربع عمنا جاهين فى جريدة «الأهرام»، سمعها الخال بعد أيام فى الراديو!
كان الأبنودى يسير بصحبة صديقيه صلاح عيسى وسيد خميس، فسمع أغنية فى الراديو فقال لهما «مش دى شبه الكلام اللى أنا كنت كاتبه فى الجورنال؟!» ثم سمعوا المذيع فى الراديو يقول «أغنية أنقذ قطنك.. غناء: فاطمة على.. تأليف: عبدالرحمن الأبنودى». كانت هذه المرة الأولى التى يسمع فيها الأبنودى كلماته مُغنَّاة، واندهش كيف وصلت إلى الإذاعة؟ ومَن الذى اختارها؟ وكيف تحولت لأغنية متكاملة بهذه السرعة؟
والجواب كان عند جاهين، فعندما حكى له الأبنودى ما حدث، قال له: الأستاذ الشجاعى طلبها، وهو المسؤول عن تحويل الأشعار إلى أغانٍ للإذاعة، ويريد أن يقابلك. وبالفعل قرر الأبنودى أن يذهب لمقابلته، ولكنه لم يجد ملابس مناسبة ليذهب بها إلى الإذاعة لأول مرة فى حياته!
واقترح عليه صديقه الملحن إبراهيم رجب أن يعطيه قميصا جديدا، ومعه بدلة جديدة، اشتراها أخوه، لكن البدلة كانت مثيرة للسخرية بلونها الفسفورى، فبمجرد أن وصل الأبنودى إلى مبنى الإذاعة، والتقى محمد حسن الشجاعى، سأله: انت مين؟! فأجابه الخال: عبدالرحمن الأبنودى، فعلّق قائلًا: إيه اللى انت عامله فى نفسك دا؟ انت طاووس؟ فردّ عليه الأبنودى: أنا لبستها علشان أقابلك، فضحك وقال: يا راجل كنت جيتلى بهلاهيلك كان أحسن لى. المهم، تعرف تكتب أغانى؟
الأبنودى: أيوه.
الشجاعى: بس تبطل اللغة اليمنى اللى بتكتب بيها.
الأبنودى: حاضر.
وتركه الخال ومضى، وحكى لصديق كفاحه سيد خميس ما جرى، فأصر خميس على أن يحتفلا بمناسبة أن الأبنودى صار كاتبا للإذاعة بـ«أكلة كباب»، وبعدها عادا إلى البيت الذى كان عبارة عن عوامة فى منطقة الكيت كات، وأغلق الخال الباب على نفسه، ليتفرغ للكتابة، فكتب ثلاث أغانٍ دفعة واحدة، وكانت بالترتيب: الأولى عن السد العالى، وتقول كلماتها «اتمدّ يا عمرى اتمدّ.. وأعيش وأفرح وأشوف بعنيّا السدّ» وغناها محمد قنديل، والأغنية الثانية «بالسلامة يا حبيبى بالسلامة» التى تذاع كل صباح، أما الثالثة فكانت «تحت الشجر يا وهيبة». وذهب للشجاعى، وعرض عليه ما كتبه، فوافق على الأغنيتين الأولى والثانية، وعلّق على أغنية «تحت الشجر يا وهيبة» قائلًا: «أنا مش قلت لك تبطل الكتابة اليمنى دى.. مين اللى هيغنّيها؟!» فردّ عليه الأبنودى حاسما وقاطعا: محمد رشدى اللى غنّى «قولوا لمأذون البلد».
لكن الشجاعى فاجأه قائلًا: «يا ابنى دا حصلت له حادثة فى طريق السويس، واتكسر، وقاعد فى بيتهم»، فرد الأبنودى بحدة: «هو اتكسر ولا صوته اللى اتكسر، بس سيبنى أروح له».
وفى أثناء مناقشات الشجاعى والأبنودى دخل عليهما بليغ حمدى فقال له الشجاعى: سلم عليه كويس ده هيكون له شأن كبير - يقصد الأبنودى - فلما عرف بليغ أنه الأبنودى احتضنه، وخرجا صديقين.
وذهب الخال ليبحث عن رقم تليفون محمد رشدى، ووصل إليه عن طريق معهد الموسيقى، واتصل به، لكن رشدى كان فى أسوأ حالاته المزاجية، فعامله بقرف شديد - على حد وصف الأبنودى - ثم أعطاه ميعادا على قهوة التجارة فى شارع محمد على، وفى الميعاد جاء بمنتهى «الألاطة»، وسأله «رشدى» بتعالٍ شديد: «عايز إيه؟!» فقال له الأبنودى: «أنا جاى لك من عند الأستاذ الشجاعى». وهنا بدأ يتكلم وتتغير معاملته؛ لأن المعروف عن الشجاعى أنه رجل شريف جدًّا وحاد، ودخل الأبنودى فى الموضوع مباشرة وأبلغه أنه كتب أغنية له، ويريد أن يغنيها للإذاعة.
ثم أضاف قوله: «لكن مش دا اللى أنا جاى لك علشانه.. أنا جيت عشان صوتك ومكانتك.. وسيبك بقى من القعدة دى، وتعالى نتمشّى».
وسارا معًا حتى وصلا شارع الشريفين فى وسط البلد، وطوال سيرهما ظل الأبنودى يتحدث عن الفن الشعبى، وأهميته للبلد فى هذه المرحلة، وأن هذا زمن العمال والفلاحين، قائلا لمحمد رشدى: ده زمنك أنت مش زمن عبدالحليم حافظ.
كان محمد رشدى صامتا أغلب الوقت لكن بدا عليه أن الطاقة السلبية التى كان مشحونا بها بدأت تغادر جسده، وقال للخال: «دا أطول مشوار مشيته بعد الحادثة»، ثم أخذ تاكسى وعاد لبيته، ومعنوياته فى السماء.
لكن ظل الشجاعى محتفظًا بالأغانى التى كتبها الأبنودى، ويعرضها على الملحنين لتلحينها إلا أغنية «وهيبة» حتى جاء عبدالعظيم عبدالحق وقال: «يا سلام! مين كتب دى؟» فردّ عليه الشجاعى: عبدالرحمن الأبنودى، فقال له عبدالعظيم: «دا نَصّ ما حصلش»، فقال الشجاعى: «ما انتو صعايدة زى بعض»!
ولحنها عبدالعظيم عبدالحق، وغناها محمد رشدى، وصارت أكبر نقطة تحول فى حياته، ووقف على المسرح ونسى آلام قدمه، وأصبح يغنّيها فى كل حفلة، وأعادته «وهيبة» إلى الحياة مرة أخرى، وصار أشهر مما كان، وأفضل مما تمنى، وصار لا يستغنى عن الأبنودى أبدًا، فقد شعر بأنه أنقذ مستقبله الفنى.
وتغيرت حياة محمد رشدى، وتغيرت أيضًا حياة الأبنودى، فبعد «وهيبة»، طلب محمود حسن إسماعيل -أحد أهرامات الشعر- مقابلة الخال، وقال له: «إيه الجمال اللى انت بتكتبه دا، انت بتكتب كلام فوق مستوى الناس دى».
ارتبط الأبنودى فى هذه المرحلة ارتباطا وثيقا بمحمد رشدى، وكوّنا ثنائيا مهمًّا، لكن شهرة هذا الثنائى تضاعفت بعد أغنية «عدوية»، ولكن المفاجأة مَن هى عدوية تلك الملهمة لهذه الأغنية؟!
عدوية خادمة تعمل بمنزل الملحن عبدالعظيم عبدالحق، لكن الأبنودى رأى فيها صورة البنت القروية المصرية ذات الوجه الصبوح، بضفائرها الطويلة، وكانت - فى نظره - تشبه رسومات الفنان هبة عنايت التى كانت تتصدر مجلة «صباح الخير» حينذاك.
وحين جاءت عدوية تقدم الشاى للأبنودى نظر إليها، وقال: «الله.. اسمك إيه؟» فقالت: «عدوية»، فقال لها: «طيب يا عدوية هاكتبلك أغنية».
أسبوع واحد فقط، وجاء الأبنودى إلى صديقه عبدالعظيم وقال له «عايزك تلحن أغنية عدوية»! فاندهش عبدالعظيم عبدالحق، وحاول التهرب من الأبنودى، وقال له: «مش قادر أتخيّل البنت الشغالة فى الأغنية دى ولا الكلمات لايقة عليها». فى هذا التوقيت ظهر بليغ حمدى، وسأل الأبنودى: «بتعمل إيه دلوقت؟ مافيش حاجة جديدة؟»، فقال له الخال: «باعمل أغنية لعبدالعظيم عبدالحق عن بنت بتشتغل عنده»، فعلق بليغ ساخرا «هو كل حاجة عبدالعظيم عبدالحق» وسمع الأغنية وأعجبته، ولحنها ونجحت نجاحا مدويا، بقيت آثاره معنا حتى الآن. وتصدر الثلاثى رشدى وبليغ والأبنودى المشهد فى الساحة الفنية، ولكن حدث ما نقل الأبنودى وبليغ من رشدى إلى حليم!
ففى أحد الأيام كان الخال فى استوديو صوت القاهرة بصحبة محمد رشدى، وبليغ حمدى، وفرقة صلاح عرام، يسجلون أغنيتَى «بلديات» و«وسّع للنور». وفجأة وجد أمامه اثنين يرتديان بدلتين أنيقتين، وتختفى ملامح وجهيهما خلف نظارات سوداء ضخمة، وقال أحدهما بنبرة حادة موجها كلامه إلى الخال: «حضرتك الأستاذ الأبنودى؟ من فضلك عايزينك معانا شوية»!
فصار معهما بهدوء، وقال لبليغ بالإشارة من خلف زجاج الاستديو ما معناه: «أنا معتقل.. ابقى ادفع لى إيجار الشقة»، وكان وقتها يسكن فى عمارات أوديون، لكن بليغ ضحك، بل إنه كاد يسقط على الأرض من كثرة الضحك، وظل على هذه الحالة حتى غادر الأبنودى مع الرجلين الغامضين، بينما الأبنودى فى شدة الضيق والغيظ مما يفعله صديقه بليغ الذى لا يخفى فرحته.
وخرج الثلاثة من الاستوديو، وكانت سيارة «كاديلاك» فى انتظارهم، وركب الثلاثة، وركب أحدهم بجوار الأبنودى، والثانى بجوار السائق، والكل صامت، لا كلمة، لا تعليق، لا همسة، لا شىء. ومرّت السيارة بجوار مبنى وزارة الداخلية فى لاظوغلى ولم تقف، فقال الأبنودى لنفسه «أكيد عندهم أماكن كتير.. همّا هيغلَبوا؟»!
لكن فجأة وقفت السيارة أمام عمارة ضخمة فى الزمالك، وكان يقف أمامها شرطة، فظن الأبنودى أن المخابرات هى التى ألقت القبض عليه، ودخل العمارة، وسار إلى الأسانسير، وصعد معهم حتى وصل إلى شقة ظن أنها مكتب للمخابرات، ورنّ أحدهم الجرس، وانفتح الباب.
فوجد الأبنودى أمامه رجلا نوبيًّا يرتدى طربوشا وقفطانا أبيض وحزاما أحمر، وبمجرد أن وطئت قدماه الشقة، وجد صالة كبيرة بها سجاد لم يرَ مثله قط، وفوتيه ضخما يجلس عليه شخص نحيف، لكن ملامحه غير واضحة خلف الفوتيه.
فجأة قام هذا الشخص، وجرى نحو الأبنودى ليعانقه، ويقول له «عبدالرحمن.. أنت جيت؟».
فإذا هو عبدالحليم حافظ!
فأبعده الأبنودى عنه قليلا، وقال له: «أنت عبدالحليم حافظ؟» فردّ عليه: «أيوه يا سيدى.. أنا عبدالحليم»، فقال له الخال: «أمّال مين ولاد الجزمة دول اللى سيّبوا رُكبى؟!».
وجرى عبدالرحمن خلفهم فى الشقة، وهم يقولون له: «واحنا مالنا ما هوّ اللى قال».
ويضيف الخال: لكن عبدالحليم منعنى عنهم، وأخذنى بالأحضان والقبلات، وظللنا نضحك معًا لساعات طويلة، ثم قال لى «عايزك تكتب لى أغنية». ثم أمسك بسماعة التليفون، واتصل بأحد الأشخاص، وقال له: «تعالى عبدالرحمن الأبنودى وصل»، فحضر بعد دقائق كمال الطويل ورحّب بالأبنودى بحرارة بالغة، ثم جلس الثلاثة «حليم والطويل والأبنودى» يتحدثون عن الغناء، وقال عبدالحليم للأبنودى «أنا عايز أغنية لعيد ثورة يوليو».
فردّ عليه الخال: «أولا: أنت وصلاح جاهين وكمال الطويل رمز لهذا العيد، ولهذا النوع من الغناء، ثانيا: صلاح جاهين برّه بيتعالج، وأنا مش هاخون غيابه، صلاح صديقى، ومن فضلك استبعد هذا الأمر». فنظر حليم إلى الأبنودى وقال: «طيب وبعدين إحنا مزنوقين عبدالناصر منتظر يسمعنى.. نعمل إيه؟». فردّ عليه الأبنودى قائلًا: صلاح عامل مجموعة قصائد منها «اتكلموا» وأنا ممكن أخذها، وأعملك المونتاج بتاعها، وأسلمك لها نص رائع». وبالفعل اتفقوا على هذا الحل للمأزق، لكن صلاح جاهين عاد من رحلة العلاج، ومعه أغنية عيد الثورة «يا أهلا بالمعارك».
كانت هذه هى المرة الأولى التى يلتقى فيها الأبنودى، عبدالحليم حافظ، وأصر حليم على أن يمكث الخال معه فى بيته، ورأى الأبنودى ديوانه الأول «الأرض والعيال» فى غرفة نوم حليم وبجوار سريره - على حد وصف الخال - وفرح بشدة، وقال له: «أنا عايزك تغنّى لى أغنية عن العدوان الثلاثى».. فرد عليه عبدالحليم «بس إحنا سنة 64!!»، فقال له الخال: «ما انت كان المفروض تغنّيها لى من زمان وأنا زعلان إنها فاتتنى»، فقال له: «خلاص هاتها نلحنها»، فردّ الأبنودى: هىّ جاهزة وعبدالعظيم محمد ملحنها، فضحك حليم وقال مازحًا: «أنت كمان عايزنى أغنى لغير اللى باغنِّى ليهم!»، وبالفعل غنَّاها عبدالحليم فى عام 1966، وكانت أغنية «الفنارة». لكن فى نفس الجلسة كان عبدالحليم واضحا وجادًّا حين قال موجها كلامه إلى الأبنودى: «أنا عايز أغنّى اللغة بتاعتك دى علشان عاجبانى.. لكن أنا ماقدرش أقول المسامير والمزامير زى صاحبك يقصد أغنية عدوية التى غناها محمد رشدى.
واستطرد حليم قائلًا: أنا برضه عبدالحليم حافظ. فكان رد الخال جاهزا، وكأنه كان فى انتظار تلك اللحظة فقال حاسمًا: طيب هنعمل أغنية «التوبة» بس مع بليغ. وكان حليم حينذاك مختلفًا مع بليغ، لكن الأبنودى كان يرى أن بليغ هو الأنسب لهذه الأغنية التى لم يكن قد كتب كلماتها بعد!
وذهب الأبنودى لبليغ وأخبره بما حدث، لكن بليغ قال له: «بس أنا وعبدالحليم بينّا زعل»، فرد عليه الأبنودى: «يا سيدى لا بينكم ولا حاجة هو عبدالحليم حافظ وأنت بليغ حمدى»، فصمت بليغ ثم قال: «طيب خلاص علشانك أنت».
وذهب الأبنودى وبليغ إلى حليم، وبمجرد أن رأى بليغ، حليم زال كل شىء، وأكلا وشربا وضحكا معًا، ولم يتحدث أحدهما إلى الآخر ولو معاتبا، وفى اليوم التالى بدأ العمل فى أغنية «أنا كل ما أقول التوبة يا ابويا ترمينى المقادير».
والمدهش أن الأبنودى، ذهب إلى الاستوديو، ولم يكن قد انتهى من كتابتها، لكنه ارتجلها وهو يجلس مع بليغ حمدى، يكتب «كوبليه» ثم يلحنه بليغ، وهكذا، حتى انتهت واحدة من أشهر أغانى حليم وبليغ والأبنودى. لكن حين جاء موعد تسجيل الأغنية كان عبدالحليم خائفا، ومتوترا فى أثناء التسجيل، فقد كان يشعر بأنه يغيّر جلده كله، لدرجة أنه سجلها مرتين ليطمئن قلبه.
لكن بعد هذه التجربة دخل الأبنودى إلى السجن، ولم يكن قد أتمّ قصيدة أخرى، فقط كان قد كتب «أنصاف أغانٍ» استكملها حليم بمؤلِّفين آخرين، بعدما استأذن الأبنودى، الذى وافق على الفور، وقال لحليم: «كمل مالكش دعوة بيا»، وقد حدث هذا أيضا مع فايزة أحمد إذ أكمل شعراء آخرون أغنيات للخال رشحهم لاستكمالها!
لكن بعد خروج عبدالرحمن الأبنودى من السجن فى إبريل 1967 تعاون كثيرا مع عبدالحليم لكن الظروف التى عاشتها مصر فى هذا الوقت طغت على أى شىء وكل شىء.
رغم الحالة التى كانت تعيشها مصر حينذاك فإن الأبنودى وحليم كانا لا يفترفان فى هذا التوقيت حتى إنهما سمعا خطاب التنحى معًا فى بيت عبدالحليم، وكان معهما أحمد رجب وكمال الطويل وبليغ حمدى ومجدى العمروسى، ووقعت الصدمة فوق رؤوسهم جميعًا، وهرولوا إلى الشارع وانضمّوا إلى الملايين التى خرجت تطالب عبدالناصر بالتراجع عن قرار التنحى.
لكن لم يكن ليسمح عبدالحليم أن يستسلم لحالة اليأس التى أصابت الجميع، أن تتسلل إلى قلبه، وفنه، فذهب إلى الأبنودى، وقال له: «إحنا هنقعد كده من غير أغانى»، فردّ الخال: «لو عملنا أغنية مافيهاش إننا دخلنا حرب وانهزمنا، هننضرب بالجزم».
فقال حليم ساخرا: «طيب ما تعمل، أنت مش عاملّى ثورى وبتدخل السجن ولما ييجى أوان الثورية تطلع مش ثورى»!!
فأعطى الأبنودى لحليم ورقة فيها قصيدة قد كتبها قبل النكسة، وتقول كلماتها:
عدَّى النهار
والمغربية جايَّة
تتخفَّى ورا ضهر الشجر
وعشان نتوه فى السكة
تاهت من ليالينا القمر
وبلدنا على الترعة
بتغسل شعرها
جانا نهار
ماقْدِرْش يدفع مهرها
حين قرأ حليم هذه الكلمات رقص فرحًا، واتصل ببليغ حمدى وقال له «احضر فورا»، وتفرغ الثلاثة لتحضير «موال النهار».
وفى أثناء التحضير للأغنية، ظل عبدالحليم يحلم لمدة ثلاثة أيام أن الناس تحمله فى ميدان التحرير، وهو يرتدى جلبابا أبيض ويغنّى «عدَّى النهار».
كانت «عدَّى النهار» مثل السحر، غيرت نفوس الناس، بل إنها كانت ترفع معنويات عبدالناصر شخصيًّا لدرجة أنه كان يتصل برئيس إذاعة صوت العرب ويسأله: «فين أغنية عدَّى النهار؟!».
لكن بعد «موال النهار» ظل الأبنودى لسنوات يبحث ويجمع السيرة الهلالية ذلك التراث البديع الذى لم نقدره حق قدره، وعاش الخال متنقلا بين البلدان، ولم يلتقِ مع عبدالحليم حتى حدثت معجزة نصر أكتوبر، فعاد ليعملا معًا فى آخر تعاون بينهما «صباح الخير يا سينا»، حينها كان عبدالحليم قد وصل إلى الأمتار الأخيرة فى رحلة مرضه، وقال للأبنودى: ماتزعلش منّى أنا غنيت وأنا تعبان جدًّا، فردّ عليه الخال: انت غنيت من القلب وصوتك كان كله إنسانية وعذوبة لم أرَها من قبل. وسافر حليم بعد التسجيل مباشرة إلى إنجلترا، وذهب الأبنودى ليودّعه قبل أن يتجه إلى المطار، لكنه لم يكن يعلم أنه اللقاء الأخير.
ورحل عبدالحليم، وودّعه الخال إلى الآخرة، ورثاه الأبنودى قائلًا:
فينك يا عبدالحليم
كتبت سطرين
بس كنت حزين
أدّى ورقتى لمين
فينك
نغنّى تانى موال النهار
يا صاحب الرحلة ف طريق الشوك
أنت مامُتّش
همَّا شِبْعوا موت
المسألة مش صوت
المسألة
هَمّ الجميع يتحضن
المسألة
تترجم لمعاناة.. وطن
المسألة أمِّتنا فى التِّيه
تفتكر
وتنتفض
وتعود
تنفض غبار اليأس.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]