[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
أشعر بملل دائم أ. عائشة الحكمي
السؤالبسم الله الرحمن الرحيم أبعثُ
هذه الكلمات بروحٍ منهكة أضناها طريقٌ طويل ممتدٌّ بالهزائم مع نفسي،
تبًّا لها من نفس! لا تريدُ إلا الراحة، ولا تميلُ إلا للدَّعَة، ليست هذه
مشكلتي التي أريدُ أن أبثَّها طالبًا الحلَّ لها؛ لأنَّ هذه الصفات هي حال
جميع الأنفس والدواء معروف؛ لا يكون إلا بكبحِ جماح رغبات النفس، بَيْد
أنَّ مصيبتي التي ابتليتُ بها: أني لا أكادُ أستمرُّ على عملٍ من الأعمال
التي أفرضُها على نفسي، سواء كان هذا العمل صغيرًا أم كبيرًا، وحتى نفسي لا
أستطيعُ الاستمرار في مداراتِها وفي مجاهدتها، وأجدُ من نفسي تقلبًا في
أحوالي، وقد حاولت جاهدًا أن أبذلَ ما أستطيعُ لكي أصبر على العمل على
جدولٍ يومي معين فلم أستطع، وكان أكثر ما وصلت إليه ثلاثة شهور، ثم بعدها
أصبحتُ أعيش في فوضة عارمة؛ لأني أحبُّ أن أعيشَ من غير قيود، وكذلك إذا
استمررتُ على قراءةِ كتاب معين ينتابني الملل منه فلا أكمله، يحصل هذا معي
في كلِّ شيء، ولا أكادُ أتم شيئًا من الأعمالِ على وجهه الصحيح، وقد حاولتُ
حلَّ هذه المشكلة بكافَّةِ الطرق؛ من تنويعٍ في الأعمال، ومن تخفيفٍ
للضغوط وغير ذلك. مشكلتي هي
أني شخصٌ متقلب لا أستطيعُ أن أثبتَ على حالٍ معين، أريد حلاًّ لهذه
المشكلة، فقد قرأتُ كثيرًا وبحثت عن حلولٍ لكن دون جدوى، فأرجو منكم مدَّ
يدِ العون لنا - أثابكم الله - مللتُ من الكتابةِ، أفيدوني بارك الله فيكم. الجواببسم الله الملهم للصَّواب
وهو المستعان
أيُّها الأخ الفاضل:
وحدهم الملائكَة - عليهم السَّلام - الذين لا يملُّون ولا يسأمُون من العمل؛ ﴿
فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ﴾ [فصلت : 38]، ﴿
وَلَهُ
مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء : 19 ، 20].
قال ابنُ حزم - رحمه الله - في "
الفصل في المِلَل والأهواء والنِّحَل":
"وذَكَرَهم - أي: الملائكة - عزَّ وجل في غيرِ موضعٍ من كتابه، فأثنى على
جميعِهم، ووصفهم بأنهم لا يفترون ولا يسأمون ولا يعصون الله، فنفى عنهم
الزَّللَ والفترة والسآمة والسهو، وهذا أمرٌ لم ينفه - عز وجل - عن الرُّسل
- صلواتُ الله عليهم - بل السَّهو جائزٌ عليهم".
إذًا؛ ما دُمنا قد خُلِقنا من
ماءٍ وطِين، فلا بُدَّ أن يعترضَنا المللُ والضَّجر والسَّآمة؛ لأجل ذلك
أخذ النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا الفهم للطَّبيعة البشريَّة في
الاعتبارِ عند وعظه الصَّحابة - رضوان الله عليهم.
روى البخاري - رحمه الله - في "
صحيحه"،
باب: "ما كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتخولهم بالموعظةِ والعلم
كي لا ينفروا"؛ عن ابنِ مسعود - رضي الله عنه - قال: "كان رسولُ الله
يتخولنا بالموعظةِ في الأيام مخافةَ السَّآمة علينا".
والملل: هو انطفاءُ تيَّار الحماس الكهربائي الذي يُدير مُحرِّكَ القلب والعقل، ومن أبرز مُسبِّباته:1- طول الأمر.
2- كثرة العمل.
3- عدم الميل والاهتمام.
4- التَّعب والشُّعور بالإرهاق.
5- الرُّوتين والرَّتابة وعدم التجديد والتنوع.
6- أحد أعراض الاكتئاب.
7- دافع الفضول لتجربة أمورٍ أخرى.
8- الذَّكاء العالي.
9- الثَّراء والترف والشُّهرة
10- الافتقار إلى التَّحفيز العاطفي.
علاج الملل:أولاً: من المهم أن تعي - أيُّها الأخ الفاضل - أنَّ الإنسانَ مطبوعٌ على الملل
والضَّجر، فلتتقبَّلْ طبيعتكَ، ولتتذكَّر أنَّ كثيرين مثلكَ قد هجَم عليهم
الملل، واستولى على حماسِهم ونشاطهم، ففترت هِمَمُهم، وإنَّما يتفاوتون
فيما بينهم في قُدرةِ بعضهم على استعادةِ الرَّغبة الفاتِرة، وإيناس
الهِمَّة النَّافِرة.
ثانيًا: وَقْف الإيحاء بالملل والضَّجر؛ فقد بدا لي من سُطورِك أنَّكَ تُوحي لنفسك
كثيرًا بذلك، حتَّى استحكم مللُكَ فمللتَ، حتى من كتابةِ تفاصيل المشكلة،
والعقل يستجيب سريعًا لما يُوحى إليه، وعِوَضًا عن هذه الإيحاءاتِ السلبية
المستمرة، برمجْ عقلَك إيجابيًّا بالأفكار المُحفِّزة التي تساعد على
استمرارِ شُعْلَة الحماس مُتَّقِدة في داخلك.
ثالثًا: الممارسة المُوزَّعة: توقَّف عن العملِ متى ساورك الشُّعور بالملل،
والتحقْ بنشاطاتٍ أخرى تفضِّلها؛ يقول د. محمد الحجَّار في كتابه "
عالج مشكلاتك النَّفسية بنفسك":
"أبانت الدِّراساتُ التي تناولتْ ما يمكن تسميتُه: (الممارسة المكثَّفة)
مُقابل (الدِّراسة المُوزَّعة) أنَّ الأفرادَ الذين يلجؤون إلى المُمارسة
المُكثَّفة هم أقل إنتاجيَّةً من أولئك الذين يدرُسون دراسةً مُوزَّعة؛ ما
نعنيه بالدِّراسة المُكثَّفة: الإلحاح على الاستمرار في العمل بدون أخذ قسط
من الرَّاحة؛ أي: العمل المستمر طِوال اليوم، أمثال هؤلاء الَّذين يأخذون
بهذه الفلسفة في الكدِّ سرعان ما يجدون أنفسَهم مُتعبين نتيجة الكدِّ
والاستمراريَّة، وبالتَّالي ينخفضُ مستوى الأداءِ نوعيًّا، وهذا ما يدفعُهم
إلى رفع وتيرة الجهد لتعديل هذا الانخفاض بالأداء، وهذا بدوره يُؤدِّي إلى
التَّعب، وهكذا يدُورون في هذه الحلقة المعيبة، أمَّا الممارسة المُوزَّعة
فتعني: الإستراتيجية القائمة على الدراسةِ أو العمل الذي يتخللهُ فترات
استراحة متكررة؛ مثلاً: تتوقف عن الدراسةِ لتمضي عشر دقائق في المشي أو في
إجراءِ استرخاءٍ مقتضب، أو القيام بنشاطاتٍ مسلية أخرى مختلفة عمَّا كنت
تمارسه، إنَّ هذه الإستراتيجية تكسرُ روتينية العمل أو الدراسة، وترمم
النشاط، وتبقي الخط البياني للأداء خطيًّا وليس متذبذبًا بين صعودٍ وهبوط،
ويكون العمل أكثر إنتاجية.
((ولكن يا حنظلة ساعةً وساعةً))، وكرَّرَها ثلاثًا؛ رواه مسلم.
رابعًا: كن
واقعيًّا مع نفسِك، ولا تضع لنفسك خططًا لا تتناسب وقدراتك الحقيقية أو
اهتماماتك الشخصية؛ بل اختر من الأعمالِ ما يوافقُ هواك، ويصنع في نفسك
صنيع الأذان في قلوب المصلين.
خامسًا: في "
السلسلة الصحيحة"
للألباني: ((إنَّ الله - تعالى - يحبُّ من العاملِ إذا عمل أن يحسن))،
وكذلك ((إنَّ الله يحبُّ إذا عمل أحدُكم عملاً أن يتقنَه))، فاعمل العمل
وكأنك قد وقعت عقدًا بينك وبين ربك - عز وجل - لإنجازِه، ثم تذكَّر الوعد: ﴿
إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف : 30].
سادسًا: في
مكانِ العمل أو الدراسة ونحوهما حيث تشعر بالضجر، أضف شيئًا للمكانِ يبهجك
ويسليك ويحفزك: (أصيص ورد، ملصقات، لافتات تحفيزية، كتب تطوير الذات
وتعزيز الدافعية...الخ)، ففي كتاب "شوربة دجاج للحياة العملية"؛ تقول سوزان
جيفرس: "وضعت لافتةً على مكتبي كتبتُ عليها: (إذا كنت ذات أهمية حقًّا في
هذا المكان، فما الشيء الذي كنت سأفعلُه؟)، وكل مرة كنت أعودُ فيها إلى
سلوكي القديم من الملل والتشكي، كانت اللافتة تذكرني بالشيء المفترض أن
أفعلَه، وكان ذلك عونًا حقيقيًّا لي".
سابعًا: تذكر أنَّ كلَّ عمل تعمله هو رغبة واختيار، فإما أن تختارَ الملل أو أن
تختار إكمال العمل، فإذا اخترت الملل فأنت وشأنك، وإذا اخترت إكمالَ العمل
فهذا من صلاحِ أمرك.
ثامنًا: تقول الحكمة: "
اعمل ما تحب، وأحبَّ ما تعمل"؛
يعني: إمَّا أن تعملَ الأشياء التي تحبها - ومن يحب شيئًا لا يملّه - أو
أن تجبرَ نفسَك على حبِّ الأعمال المملة التي تجبرُ على أدائها؛ كي تتمكن
من إنجازِها والانتهاء منها، أو بتعبيرٍ آخر: أقبل على العملِ كما لو كنتَ
تحبه؛ ففي الفصلِ السابع والعشرين من كتاب "دع القلق وابدأ الحياة"؛ يقولُ
كارنيجي: "فإذا كان عملك بغيضًا إليك، ولا يسعك أن تجعلَه مسليًا حقًّا، أو
ممتعًا فعلاً، فأقبل عليه (كما لو كان) ممتعًا، وسوف ترى أنه مع الوقتِ
سيلذُّ لك حقيقةً لا زعمًا، وفلسفة (كما لو كان) فلسفة يقرها علم النفس
الحديث ويؤمن بها، فقد نصحنا العالِمُ النفساني وليم جيمس بأنْ نبدو (كما
لو كنَّا) شجعانًا فتواتينا الشجاعة أن نتصرف، (كما لو كنا) سعداء فتغمرنا
السعادة، وهلم جرًّا، أقبل على عملك إذًا (كما لو كنت) تلقى فيه متعةً
ولذة، وسوف يحقق لك تكلف المتعة واصطناع اللذة متعةً حقيقية ولذة واقعية".
والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصَّواب، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلواته على سيدِ المرسلين محمد وآله الطَّاهرين.