الإحكام في أحكام سجود السّهو
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،أمّا بعدُ،
فإنّ الصّلاة عمادُ الدّين، وهي معراجُ العبد إلى ربّ العالمين، وأكبرُ نعمةٍ أنعم بها على الإنسان ربُّهُ الرّحيم، إذ أتاح له بها الوقوف بين يديه ومناجاته، والتزوّد بالطّاقة الإيمانيّة الكافية لارتقاء نفسه وخُلقه وسلوكه، ومواجهة مشكلات حياته، مصداقاً لقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، و((كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى))1.
والأصل في الصّلاة: أن يؤدّيها المسلم بغاية الخشوع والإخبات، مستحضراً معنى كونه واقفاً بين يدي ربّه جلّ جلاله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، لكنَّ من رحمة الله عزّ وجلّ بالإنسان، أن جعل تحقيق هذه التقوى مستنداً إلى طوق الإنسان واستطاعته، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، فصار من مبادئ الفقه المستقرّة: أنَّ تبعة الالتزام بالصَّلاة ترتفعُ عن المسلم، إذا التزم بهيئتها الإجماليّة الظاهرة، مستوعباً أركانها وواجباتها وما استطاع من سننها، وإن كان غافلاً عمّا ينبغي فيها من معاني الخشية، وإن كانت نصوص الشرع تؤكد من ناحيةٍ أخرى، على صحة معنى ما رُوي عن التّابعيّ الجليل سفيان الثوري، أنّه (يُكتبَ للرّجلِ من صلاتِهِ ما عقل منها)، فيكون المرءُ موقناً بأنّه ليس له من صلاته إلا ما أدّاه بخشوعٍ، بيد أنّ صلاتُه تكون مقبولةً، وتسقط عنه بها التّبعة، ما دام أنّه أتى فيها بالهيئة الإجماليّة العامّة للصّلاة في الشّرع.
ومن رحمة الله عزّ وجلّ: أنّه حتَّى إذا سها المصلّي في صلاته، فأخلَّ ببعض أركانها أو واجباتها الظاهرة، أُتيح له جبرُ هذا الإخلال بسجود السّهو، دونما حاجةٍ إلى إعادة الصّلاة كلّها، وهذا يقودنا للحديث عن سجود السّهو، وأسبابه وكيف يستدرك به الإنسان ما قد يحدث في صلاته من خلل.
ولكن نرى من الضروريّ، قبل ذلك: أن نلقي الضوء على "الهيئة الإجماليّة الظّاهرة للصلاة الشّرعيّة"، ليسهل علينا إدراك ما قد يعرض لها من السهو.
الهيئة الإجماليّة الظاهرة للصّلاة الشرعيّة:
مدخل:
كما رأينا فإنّ من المتّفق عليه: أنّ الفقه الإسلاميّ، إنّما يعتدُّ بالهيئة الإجماليّة الظاهرة للصّلاة في الشرع، ولا يهتمّ بحقيقتها الباطنة، هذا مع تقديره لأهمّيتها الجوهريّة.
إذن، فينبغي معرفة هذه الهيئة الإجماليّة الظاهرة للصلاة الشرعية، وهذا المفهوم وإن كان يبدو جديداً، لكنّ محتوياته معروفةٌ مقرّرة، وسنُشير إليها على النحو التالي:
ما هي الصّلاة؟
الصّلاة عبارة عن أقوال وأفعال معيّنة، تبدأ بالقيام وتكبيرة الإحرام، وتنتهي بالتّشهد والسّلام.
وهذه الأقوال والأفعال المعيّنة، ليست على مرتبةٍ واحدة، بل هي على ثلاث أنواع: أركان، وواجبات، وسُّنن:
-الرّكن في الصّلاة، لا يسقط مطلقاً، لا عمداً ولا سهواً.
-والواجبات يُمكن أن تسقط، عند السّهو عنها.
-أمّا السُّنن فيجوز أن يتعمّد المصلّي إسقاطها، بحسب ما يكون عليه من إقبالٍ ونشاطٍ في العبوديّة، أو فتور.
وهذه الأركان والواجبات والسنن، ليست منفصلةً عن بعضها البعض، بل إنّ الصّلاة تبدو كبنيان واحد، يتأسس على الأركان، ثمّ كلُّ ركنٍ يتعضّد بركنٍ آخر، أو تتعلّق به الواجبات والسُّنن، على نحو ما سنرى بعد قليل بإذن الله تعالى.
ما هي الهيئة العامّة للصّلاة؟
الصّلاة تتكوّنُ من ركعةٍ واحدةٍ، كصلاة الوتر، أو من ركعتين أو ثلاثٍ أو أكثر.
والرّكعة الواحدة من ركعات الصّلاة، تكون عموماً ذات نهجٍ واحد، وهو أنّها تتكوّن عموماً من حركتين عامّتين:
الحركة الأولى: تتكوّن من ثلاث حركاتٍ فرعيّة، وهي:
1/ حركة قيامٍ، وتتعضد بركنين من أركان الصّلاة، هما تكبيرة الإحرام، وقراءة سورة الفاتحة، ثمّ تتعلّق به سنّةُ دعاء الاستفتاح.
2/ حركة ركوعٍ، ويتعلَّق بها واجبٌ، وهو قول: "سبحان ربِّي العظيم"، كما تتعلقُ به سننٌ، منها: أن يرفع يديه حذو منكبيه.
3/ حركة رفعٍ من الركوع وعودةٍ إلى القيام، ويتعلق بها واجبٌ، وهو قول: "سمع الله لمن حمده".
وفي نهاية هذه الحركة العامّة الأولى، يتمّ الانتقال لأداء الحركة العامّة الثّانية، بأن يهويَ المصلّي للسّجود.
الحركة الثانية: وتتكوّن من ثلاث حركاتٍ فرعيّة:
1/ حركة سجود، ويتعلّق بها واجبٌ قوليٌّ، كما تتعلق بها سننٌ فعليّة.
2/ حركة جلوس، ويتعلَّق بها واجبٌ قوليٌّ.
3/ حركة سجودٍ ثانٍ.
هذا إذا لم تكن الرّكعة هي الركعة الختاميّةً للصلاة.
أمّا إذا كانت هي الختاميّة، فعندئذٍ ستنضاف حركة فرعيّة ختاميّة، وهي حركة الجلوس الأخير، وتتعضد بركنين قوليّين.
إذن، تتكوّن الرَّكعة الواحدة من ركعات الصّلاة، من حركتين عامّتين:
الأولى: (قيامٌ، ثم ركوعٌ، ثم قيامٌ ثانٍ). أي: (ق ر ق).
الثانية: (سجودٌ، ثم جلوسٌ، ثم سجودٌ ثانٍ). أي: (س ج س).
ثمّ تُختم الصّلاة بحركة الجلوس الختاميّ.
وكما رأينا فإنّ كلاً من الحركتين الظاهرتين اللتين تكوّنان الركعة، تتكونُ من ثلاث حركات فرعيّة كلّها أركان، وكلها حركاتٌ فعليّة ليست قوليّة، إذن فكلّها أركان فعليّة، ليس فيها من واجبٍ ولا سنة، ثم تتعلّق بها بقيّة الأركان والواجبات والسنن.2
كان هذا مدخلاً ضروريّاً، يُرجى أن يقودنا إلى فهمٍ واضح لمسائل سجود السهو.
المراجع
1- رواه أبوداود (1319) وأورده الألباني في صَحِيح الْجَامِع (4703)، عن: الجامع الصَّحيح للسُّنن والمسانيد (17/ 305).
2- راجع موضوع سابق، في هذه النافذة تحت عنوان: جدول الواجبات والأركان والسنن.