اختلفت المدارس الفكرية القائمة في القرن التاسع عشر بحدة حول طبيعة الذكاء وكيفية قياسه. وتركز معظم الخلاف حول مصدر الذكاء وطبيعته. أهو حتمية وراثية أم أنه وليد تأثر المرء ببيئته؟ وبعبارة أوضح، أيهما صاحب الدور الأكبر في نشأته، الطبيعة أم التربية؟ ويعود تاريخ الدراسة العلمية للذكاء البشري إلى ما يزيد عن 100 عام، عندما حاول الإنكليزي فرانسيس غالتون Francis Galton قياس الصفات الجسدية للنبلاء وردود أفعالهم واستجابتهم الحسية الأخرى. ولهذا يمكننا اعتباره أحد مؤسسي بحوث الذكاء في العصر الحديث ورائدًا في الدراسات النفسية. لكنه وبسبب من قصور تقنية ذلك العصر لم ينجح في محاولاته، وخاصة في قياس العوامل البيولوجية المتغيرة، على الرغم من أنه وضع فرضياتٍ صالحة للاختبار، استخدمها الباحثون المهتمون بقياس الذكاء فيما بعد.
قياس الذكاء
لم يصبح قياس الذكاء ممكنًا حتى حلّ القرن العشرين، حينما طور الفرنسي ألفرد بينت Alfred Binet أول اختبارٍ للذكاء يماثل إلى حد بعيد اختبار الذكاء الذي نستخدمه هذه الأيام، فقد صمم اختبارًا يتضمن مجموعة من الأسئلة يستطيع أطفال في مراحل عمرية مختلفة الإجابة عليها بكل يسر. وكان هدفه من هذا الاختبار تمييز الأطفال الذين يعانون من صعوباتٍ في التعلم أو من يحتاج منهم إلى رعايةٍ خاصة، وارتكز اختباره على الاعتقاد بأن ذكاء المرء يتطور مع تقدمه في العمر، لكن موقعه النسبي بين أقرانه يبقى ثابتًا إلى حدٍ بعيد. ثم أدخل عالم النفس الألماني وليام شتيرن William Stern فيما بعد فكرة معادل الذكاء IQ (وهي صيغة للتعبير عن العمر العقلي للمرء نحصل عليها من خلال اختبارـ كالذي طوره الفرد بينت ـ حيث نقسم الرقم الدال على نتيجة الاختبار بالعمر الزمني للطفل، ثم نضرب الناتج بـالعدد 100).
وتلاه في هذا المضمار لويس تيرمان Lewis Terman أستاذ علم النفس المعرفي من جامعة ستانفورد الذي طوّر اختبار بينت بهدف استخدامه في الولايات المتحدة، ولعل أكثر تعديلاته أهمية كان ابتكاره لنسخةٍ يمكن تطبيقها على البالغين، ثم قام من بعده عالمُ النفس الأمريكي ديفيد وشلر David Wechsler في عام 1930 بتوسيع فكرة تقييم الذكاء عند البالغين إلى مدى أبعد من ذلك. وعلى امتداد القرن الماضي شهدت النسخة الحالية من اختبار وشلر وستانفورد ـ بينت تطورًا ملحوظًا. وهي تعد بحق إنجازًا باهرًا في حقل الاختبارات النفسية، لأنها تقيس بدقة عالية عددًا كبيرًا من العمليات الذهنية، وخاصة ما تعلق منها بفهم المفردات والحساب والذاكرة والمنطق، مما جعل استخدام نتائج هذه الاختبارات للتنبؤ بعددٍ من الملكات المعرفية والأكاديمية والتنظيمية للممتَحَنين أمرًا مقبولاً.
وهناك أيضًا أنواعٌ أخرى من اختبارات الذكاء صممت لقياس القدرات الذهنية غير اللفظية، كتلك التي استخدمها الجيش الأمريكي لقياس ذكاء المتقدمين للخدمة الذين كان بعضهم أُميًّا ، ومنها اختبارات (Army Alpha and Beta tests)، وتضمنت هذه الاختبارات سلسلةً من الأسئلة المنطقية غير اللفظية لتقييم الاختلاف في مستوى الذكاء عند من لا يستطيعون القراءة أو الكتابة. وبسبب من موضوعيته عُدَّ هذا النوع من الاختبارات "عادل ثقافيًّا" ما يعني أنه لا ينحاز ضد الأشخاص الذين قلَّ تعليمهم أو انخفضت قدراتهم اللغوية.
من أين يأتي الذكاء؟
يؤمن بعض الباحثين بوجود علاقة وثيقة بين الأداء في اختبارات الذكاء والتحصيل العلمي، بل ويزعمون أنه يمكن حتى لنتائج الاختبارات في عمر مبكر أن تتنبأ بمدى الإنجازات الأكاديمية والأداء المدرسي في سنواتٍ لاحقة. ولمّا كانت المناهج التعليمية ـ أو أغلبها على الأقل ـ تُدَرِّس المنطق ومهارات حل المشكلات فإنّ التعليم الأفضل جودةً والأطول مدةً يؤدي عادةً إلى تحسنٍ في مستوى الذكاء إضافة الى الارتقاء بالأداء الأكاديمي. ويظهر هذا جليًّا في أنّ شطرًا كبيرًا من الأطفال الذين حُرموا من ارتياد المدرسة يُبدون عادةً نقصًا في مستويات ذكائهم، كما أنّ الأطفال الأكبر سنًّا في الفصل ذاته يحققون غالبًا نتائج أعلى في اختبارات الذكاء. وهذا ما قاد العديد من علماء النفس والمدرسين إلى التساؤل عمّا إذا كانت اختبارات الذكاء عادلة حقًا تجاه مجموعات معينة من البشر.
ويجادل البعض في أنّ المستوى الاقتصادي والاجتماعي لعائلة الطفل يلعب دورًا مهمًّا في هذه المعادلة، إذ بإمكان العائلة الأكثر ثراءً أن تقضي وقتًا أطول في مساعدة الطفل على تنمية قدراته الذهنية، وأن تمتلك موارد أكثر لفعل ذلك. وعلى الرغم من شيوع هذا الاعتقاد إلّا أنّ البحث العلمي يظهر أن المسألة أعمق من ذلك بكثير. فعندما نأخذ مستوى الوالدين الاجتماعي والاقتصادي بعين الاعتبار يصبح مستوى ذكاء الطفل حسبما تظهره اختبارات الذكاء قادرًا على توقع أدائه الأكاديمي، لكن إذا ما ضبطنا مستوى الذكاء (بمقارنة أطفال يتمتعون بمستوى ذكاء واحد)، فإنّ قدرة المستوى الاجتماعي والاقتصادي في التأثير على الأداء الأكاديمي تغدو ضعيفة. ويدلل هذا كله على أنّه في حين يبقى المستوى الاجتماعي والاقتصادي عاملاً مهمًّا في تطور الطفل جسديًّا ونفسيًّا، فإنّ أسبابًا أخرى تربط ما بين مستوى الذكاء والإنجاز الأكاديمي.
الطبيعة أم التربية؟
ما يزال العديد من الباحثين يرون أن القدرات الذهنية التي تقاس من خلال اختبارات الذكاء IQ ذات أساس وراثي، لكنه ليس هناك إلا القليل من الأدلة التي تدعم هذا الزعم على الرغم من الإنفاق الهائل على أبحاث سعت إلى اكتشاف المورثات (الجينات) المسؤولة عن تحديد مستوى الذكاء والقدرات الذهنية. ومع مرور الوقت، خبا الأمل باكتشاف بعض من هذه المورثات وازداد الحديث عن أنه فيما إذا كان هناك أساسٌ وراثي للذكاء، فإنّ آلافًا من المورثات تسهم في صنع الفروق الضئيلة التي نلحظها على نتائج اختبارات الذكاء. بل وحتى إن كان بالإمكان التعرف على مورثات مفترضة للذكاء فإنّ الاعتقاد بأنها تعمل بمعزل عن بيئة المرء هو اعتقاد خاطئ، فنحن نعلم أن المورثات تنشط أو تَسكن اعتمادًا على محفزات البيئة. إذًا فإيجاد بيئة ملائمة خلال مراحل التطور الحساسة عند الأطفال يبدو خيارًا مناسبًا يرتجى منه أن يقود إلى آثار حميدة علي ذكائهم في قابل الأيام. وقد تضافرت الدراسات في الدلالة على أنّ التغذية الجيدة تحسن من الأداء الذهني، بيد أنه ما يزال بانتظارنا الكثير من العمل الذي يجب إنجازه في هذا المجال.
ثمّ ماذا؟
لاشك في أنّ اختبارات الذكاء تعاني من بعض العيوب، ولعل أبرزها هو أن الذكاء قد أصبح في نظر الكثير هو ما تقيسه الاختبارات حصرًا، فهذا إدوين بورينغ، وهو أحد أوائل المؤرخين في علم النفس وأستاذ في جامعة هارفرد يردد: "الذكاء هو ما تقيّمه الاختبارات فحسب". لكن الواقع المعاش يقول غير ذلك، والصورة أكثر تعقيدًا من هذا. وتدل معظم المؤشرات على أنّ بناء الذكاء البشري وترقيته أمرٌ لا غنى عنه للمجتمع الذي نعيش فيه، فهو محوري في بحثنا عن اكتشافات الجديدة ولإيجاد حلول إبداعية للمشكلات المستعصية، كما أنه مهم لتعزيز القيم التي نثمنها عاليًا. لكن العديد من الأسئلة الصعبة لا يزال قائمًا ويحتاج لإجابات مقنعة، وهي تدور في معظمها حول كيفية تطوير الذكاء لا قياسه فحسب، وعن حماية قدراتنا الذهنية من التردي مع تقدمِنا في السن.