أحاديث في باب الصبر
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1988-05-22
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
الصبر :
أيها الأخوة المؤمنون ، مع درسٍ جديد من دروس الحديث النَّبوي الشريف .
بعض الأحاديث في هذا اليوم معقودةٌ تحت باب الصَبر ، والصَّبر كما قال عليه الصلاة والسلام نصف الإيمان ، الإيمان نصفٌ صبرٌ ، ونصْفٌ شكرٌ ، فالصبر من الإيمان كالرأس من الجسد فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان .
والصَّبر أساسه المعرفة ، فإذا عرفْت أنّ الله سبحانه وتعالى رحيمٌ بك ، وخلقكَ لِيُسْعِدَك فإذا رآك قد حِدْتَ عن الطريق الذي يؤدِّي إلى سعادتك ساقَ لك من الشَّدائد ما يُعيدُك إلى الطريق الصحيح ، فالصَّبر معرفة ، ولن تكون صابرًا إلا إذا كنتَ عارفًا ، فإذا عرفْت الله ، وعرفْت حبَّه ، وعرفْت حِرْصهُ ورحمتهُ ، ولماذا خَلَقَكَ ؟ وعرفْت أنّ هذه الدُّنيا دار عمل ، فإذا جَعَلتها دار أمل لا بد من عِلاج ، وإذا علمْت أنّ هذه الدنيا دار تكليف وجعلتها دار تَشريف فلابدّ من عِلاج ، إذا عرفْت أنَّ الدنيا دارَ سَعي والآخرة دار جزاء فعَكَسْت الآية لابدَّ من عِلاج، فالإنسان متى يُعالج ؟ ومتى يقسو الأب على ابنِهِ ؟ لا يمكن لأبٍ يرى ابنهُ على الطريق الصحيح ، وفي الاتِّجاه الصحيح ، وفي السرعة المناسبة ويقسُو عليه ، ويؤكِّدُ هذا قوله تعالى :
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَءَامَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾[سورة النساء: 147]
فلمّا الإنسان تأتيه الشدائد ، والشدائد أنواع منوَّعة ، هناك شدائد نفْسِيَّة ، وهناك شدائد جسدِيَّة كالأمراض ، وشدائد ضيق في الدَّخْل ، وشدائِد ألم ، وشدائِد قهر ، وشدائِد فقد الحُريَّة ، أنواع الشدائد أنواع منوَّعة ، ويجب أن تعلمَ عِلْم اليقين أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يسوقها إلا لِحِكمةٍ بالغة لو كُشِفَتْ لك لذابَتْ نفسُكَ محبَّةً لهذا الربّ العظيم ، والمؤمن يعرف هذا الكلام ، والمؤمن الصادق يقيس على ما قد سلف ، أيَّةُ مشكلةٍ ساقها الله إليك انتَهَت بثَمَرةٍ طيِّبة، قد يكون هناك انْحِراف طفيف ، وسوء ظنٍّ بالله تعالى ، شِرْكٌ خفيّ ، اعْتِماد على غير الله ، وطَمَع في الدنيا ، وطمأنينة لها ، تأتي المشكلة لِتُطَهِّر النَفس مِمَّا علِقَ بها من حبّ الدنيا، يُرْوى أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام زار أحد أصحابه وكان مريضًا فقال هذا الصحابيّ المريض: " يا رسول الله اُدع الله أن يرْحمني ؟ فقال: يا ربّ ارْحَمْهُ ؟ فقال الله عز وجل : وعِزَّتي وجلالي لا أقبضُ عبْدِيَ المؤمن وأنا أحِبّ أن أرحمَهُ إلا ابتَلَيْتُهُ بكلّ سيّئةٍ كان عملها سُقْمًا في جسَدِه ، أو إقْتارًا في رزقه ، أو مصيبة في ماله أو ولده ، حتى أبلغَ منه مثل الذرّ فإذا بقِيَ عليه شيءٍ شدَّدْتُ عليه سكَرات الموت حتى يلْقاني كيَوْم ولدَتْهُ أُمُّه "الصبر علم :
أُريد أن أقول لكم كلمة : والله الذي لا إله إلا هو لو كُشِفَ لك الغِطاء من أنَّ الله سبحانه وتعالى إذا تابعَ عبْدهُ المؤمن بِعِقابٍ إثْرَ كلّ مَعْصِيَة لكان هذا العبدُ مكرَّمًا عند الله عز وجل ، فإذا تركَهُ هملاً فهذه هي الإهانة ، الإهانة ليْسَ أن يدَعَكَ الله وانْحرافك ، الإهانة أن يدَعَكَ وانْحِرافَكَ من دون معالجة ، ولكنَّ التَّكريم أن يُتابِعَك على كلّ ذَنْب تقترفهُ عُقوبةً أو ضيقًا أو شِدَّة .
أريد أن أقول لكم : إنَ الصَّبر عِلم ، والإنسان لن يصبر إلا إذا كان عالمًا بالله عز وجل ، حينما ترى الأب يُضيِّقُ على ابنِهِ ، فأنت كأبٍ آخر تعرف أنّ هذا رحمة ولُطف و عَطف وشفقَة وحِرص ، لذلك مجموعة أحاديث اليوم من باب الصَّبر ، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[سورة الزمر : 10]
ما أرْوَعَ المؤمن حينما تأتيه الشِّدَة فيقول : يا ربّي لك الحمْد ، وأنا راضٍ بِحُكْمك، أليْسَ النبي عليه الصلاة والسلام قدوتنا في هذا الموضوع ؟ ألم يذهب إلى الطائف مَشْيًا على قدَمَيْه ؟ ألمْ يلْقَ من أهل الطائف ردًّا قبيحًا واسْتهزاءً وكُفرًا وتكذيبًا ؟ ألم يضيِّق عليه أهل الطائف ويرجئوه إلى الحائط ؟ أما دعا عليه الصلاة والسلام قائلاً : " اللَّهم إنِّي أشْكو إليك ضَعْف قوَّتي وقلَّة حيلتي وهواني على الناس ، يا ربّ المستضعفين إلى من تكلني ؟ إلى عدوٍّ ملَكْتهُ أمري ؟ إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أُبالي ، ولك العتبى حتى ترضى ، ولكنَّ عافيتَكَ أوسَعُ لي " هذا هو حال المؤمن ، والنبي الكريم قُدوَةٌ لنا ، لا تخْلو حياة أحدنا من شدَّة ، قال تعالى:﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَريبٌ ﴾[سورة البقرة: 214]
قال تعالى:﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾[سورة العنكبوت: 2]
والله الذي لا إله إلا هو من ظنَّ أنَّه يُبْتلى أو لا يُبْتلى فقد ضلَ وأخطأ ، الصحيح أنَّهُ لابدَّ من أن نُبْتَلى ، وإنَّ الله سبحانه وتعالى جعَلَ هذه الحياة الدنيا دار ابْتِلاء وامْتِحان ، المركبة لا تُمتحَن في الطريق النازلة ، مهما كانت المركبة ضعيفةً ، ففي الطريق النازلة تُسْرع ، ولكنَّ المركبة لا تمْتحن إلا في الطريق الصاعدة ، وكذا الإنسان لا يُمْتحنُ بالرَّخاء فجَميع الناس يشكرون الله سبحانه وتعالى ، ولكنَّ البُطولة أن تشكرهُ في الشِّدة ، قال الإمام عليّ كرَم الله وجهه: " الرِضا بِمَكروه القضاء أرْفَعُ درجات اليقين " البُطولة وأنت في الضِّيق المادّي تقول : يا ربّ لك الحمد مِن أعماق أعماقك ، والبطولة في ساعة الشِدة ، وأنت في الضِّيق ، وأنت في الهمّ والحزن ، يا أرحم الراحمين بِرَحْمتِكَ أسْتغيث ، يا ذا الجلال والإكرام بِرَحمتك أسْتغيث ، اللهمّ إنِّ عبدك ، اللهمّ أنت خلقتني وأنا عبدك ، أبوء بذنبي ، حالة المؤمن حالةٌ راقيَة .الصبر نصف الإيمان :
قبل أن أمضي في الحديث عن أحاديث الصَّبْر لا بدّ أن تعرفوا أنَّ الصَّبْر نصف الإيمان ، والصَّبر تمامًا يُشبه مريضًا جالسًا على كرسي طبيب أسنان ، هذا المريض الواعي الراشد والواعي والعاقل مع أنَّ آلامًا مبرِّحة في الأسنان حين الحَفر ، وفي أثناء المعالجة ، لكنَ هذا المريض يضْغط على يدَيْه ويحْتملُ الآلام ، وفي النِهاية يشْكر الطبيب لأنَه يعلمُ علم اليقين أنَ هذا الذي يؤلِمُه هو في مَصْلحته .
قلتُ لكم مرَةً أنّ أحد الأعراب كان يطوف بالبيت وهو يقول : يا ربّ هل أنت راضٍ عنِّي ؟! كان خلفهُ الإمام الشافعي فقال له : يا هذا ، هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك؟! فقال : يا سبحان الله ! من أنت ؟ فقال : أنا الشافعي ، فقال : وكيف أرضى عنه وأنا أتمنَى رِضاه ؟ قال : إذا كان سرورك بالنِّقمة كَسُرورِكَ بالنِّعمة فقد رضيت عن الله ! هذه هي البطولة ، البُطولة عند الصَّدمة الأولى ، وعندما يأتي الخَبَرَ المؤْلِم ، هذا فعلُك ، وفِعلكَ لا يخلو من حكمة بالغة ، هذه إرادتك ، وهذه مشيئتك ، وهذا قضاؤُك ، وأنا راضٍ به ، والله كلمةُ : أنا راضٍ بهذا القضاء تعْدلُ الدنيا وما فيها ؛ لأنَّ هذه الكلمة امْتِحان ، وقد نَجَحْت في هذا الامتِحان، وسوف يمضي كلّ شيء ، الخَير سيَمضي ، والضِّيق سيَمْضي ، وتبقى هذه الكلمة التي قلتها معبِّرًا بها عن امْتِنانك ، وعن رضاك بِقَضاء الله ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " إذا أحبَّ الله عبده ابتلاه ، فإن صبَرَ اجْتباه ، وإن شكر اقْتَناهُ " معنى هذا أنِّي غالٍ عليك يا ربّ ، ومعنى هذا أنَّك لم تنْسَني ، ومعنى هذا أنَّك تحبّني ، ومعنى هذا أنَّه لولا حرصك عليّ لما ضيَّقْت عليّ ، ومعنى هذا أنَّك تريد أن تُقوِّمَ سُلوكي ، ومعنى هذا أنَّك تريد أن تقرِّبني إليك ، ومعنى هذا أنَّك تبتغي بِيَ مقامًا أعلى مِن مقامِي بهذه المصيبة .
المصائب محض عدل و فضل :
المصائب أيُّها الأخوة الأكارم مَحْض فضْلٍ ، ومَحضُ عَدْلٍ ، وقد سمَّاها العلماء النِّعَم الباطنة في قوله تعالى:
﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾[سورة لقمان: 20]
النِّعَم الباطنة هي المصائب ، والدليل قوله تعالى:﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[ سورة آل عمران: 123 ]
الإعزاز خَير ، والإذلال خَيْر ، والعطاء خَير ، والمنعُ خَير ، لذلك علماء التوحيد يحظِّرون على المسلم أنْ يذكر بعض أسماء الله عز وجل وحدها ، فلا بد أن تقول : المانع المعطي لأنَه يمنَعُ لِيُعْطي ، والضَّار النافع ، أيْ يضرّ لِيَنفَعَ ، والخافض الرافع ، يخفض لِيَرْفَعَ قال تعالى :﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾[سورة القصص: 4 ـ 6 ]
هؤلاء المستضعفون نريد أن نمكِن لهم في الأرض ، قال تعالى:﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾محبة رسول الله تحتاج إلى بطولة و صبر :
إذا أردْت أن تكون من عباد الله المقرَّبين فاسْتَعِدَّ للبَلاء ، ولكن إيَّاك أن تطلب البلاء فهذا سوءُ أدبٍ مع الله عز وجل .
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ : قَال رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ ؟ فَقَالَ : انْظُرْ مَاذَا تَقُولُ ، قَالَ : وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ ، فَقَالَ : انْظُرْ مَاذَا تَقُولُ ، قَالَ : وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ تُحِبُّنِي فَأَعِدَّ لِلْفَقْرِ تِجْفَافًا فَإِنَّ الْفَقْرَ أَسْرَعُ إِلَى مَنْ يُحِبُّنِي مِنْ السَّيْلِ إِلَى مُنْتَهَاه ))[ الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّل]
هناك امْتِحان ، وهذه دَعوة كبيرة جدًّا أن تُحِبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه تحتاج إلى بطولة ، وإلى ابتِلاء ، وتحتاج إلى صَبْر ، أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أُلْقيَ القبض عليه ليقْتَل ويعذَّب قبل أن يُقْتَل تقدَّم منه أبو سفيان أظنّه خُبيْبًا ، فقال له : يا خُبَيب أتُريد أن يكون محمَّد مكانك وأنت معافى ؟ فقال خُبَيب رضي الله عنه : والله ما أحبّ أن أكون في أهلي وولدي ، وعند عافِيَة الدُّنيا ونعيمها ويُصاب رسول الله بِشَوْكَة ! هذا هو الإيمان ، هل أحْببْت في الله ؟ هل أعْطَيْت في الله ؟ هل منعْت لله ؟ ماذا قدَّمتَ ؟ ومع من وَقَفت ؟ من عادَيْتَ ؟ الإيمان مواقف ، والإيمان الْتِزام وبذْل وعطاءٌ ، فلذلك حينما يظنّ الإنسان أنَّ هذه الدنيا دار نعيم ، ودار مُتَعٍ وسُرور فقد وقعَ في خطأ كبير ، هذه الدنيا دار عمل ، ودار ابْتِلاء ، ودار بَذْل ، ودار عطاء ، النَّعيم المقيم في الآخرة، والسَّعادة العظمى في الآخرة ، والطمأنينة في الآخرة ، والتَّشريف في الآخرة ، أنت الآن في دار تَكليف ، هذه المقدِّمة أردْتُ أن تكون بين يديّ بعض هذه الأحاديث الشريفة .من أحبه الله عجّل له التأديب في الدنيا قبل الآخرة :
عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))[الترمذي عَنْ أَنَسٍ]
هذا العبد له إمكانيات طيِّبة ، ويحبّ الله ورسوله ، يُنْتَظَر منه أن يكون ذا مقامٍ عالٍ، هذا العبد مخلص ، يسأل الله عز وجل أن يطهِّرَ قلبه من الأغيار ، هذا هو طلبه ، فلهذا الطَّلَب العالي ، ولهذا السموّ الرفيع ، الله سبحانه وتعالى يُعجِّل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد الله بِعَبْدِهِ الشرّ أمْسكَ عنه بِذَنْبِهِ حتى يُوافي به إلى يوم القيامة ، يجبُ أن تعلموا عِلْم اليقين أنَّه في اللَّحظة التي يُتْركُ فيها العَبْد وشأنَهُ ، يُتْركُ فيها العَبد وذَنبهُ ، يُتْركُ فيها العبد وتقصيرهُ ، يُتْركُ فيها العَبد ومخالفته ، في هذه اللَّحظة يجب أن تعلمَ عِلْم اليقين أنَّك مُهانٌ عند الله تعالى ، أما إذا حاسبَكَ حِسابًا سريعًا ، انْحرفْتَ قليلاً فجاء العقاب ، وقصّرْت فجاء الدّواء ، تجاوَزت فجاء العلاج ، اتَّكَلْت على غيره فجاء التخلي ، أشْركت به فجاء التأديب ، إذا كنتَ كذلك فأنت في نعمة كبرى ، لأنَّ هذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى يحبُك ، وهذه النُّقطة مهمّة جدًّا . عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))[الترمذي عَنْ أَنَسٍ]
المؤمن كأنّ له رداءً أبيض ناصعًا فإذا وقعَ عليه شيءٌ مهما بدا صغيرًا يبْدو صارخًا ، الثَّوبُ الأبيَض الناصع البياض ، والنَظيف ، لو أنَّ شيئًا وقَعَ عليه لا يزيدُ عن أنملةٍ يبْدو صارخًا لذلك يُسارعُ صاحبُ الثَّوب الأبيَض إلى مسْح هذه البقعة الملوّنة ، ولكن هذا الذي يرْتدي ثوبًا أسْود قد تمرَّغَ به في الوَحل والزُّيوت ، وفي الشُّحوم ، لو ألْقَيْتَ عليه محبرة فلا يظهر لها أثر ، فهناك إنسان ثوبهُ أسْوَد ، وهناك من ثَوبُهُ أبْيَض ، فالمؤمن ثوبُهُ أبْيَض ، لذا ما مِن عثرةٍ ولا اخْتِلاجِ عِرْقٍ ولا خَدْش عودٍ إلا بما قدَمَتْ أيديكم وما يعْفو الله أكثر ، والآية الكريمة قوله تعالى:﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾[سورة الشورى: 30 ]
وما هنا اسم شرْط جازم ، ومعنى الشِّرط أنَّ تعلّق الجواب بِفِعل الشَّرط هو تعلُّق حَتمي .أنواع المصائب :
الآن عندنا نقطة مهمَّة جدًّا أتمنَاها عليكم جميعًا ، هذه النُّقطة أنّ المؤمن إذا أصابتْهُ مصيبة عليه أن يتَّهِم نفسهُ بالتَّقصير ، الله سبحانه وتعالى عادِل ، ورحيم ، ولا بدّ من زَلَّةٍ زَللْتَ بها ، ولا بدَّ من مَعْصِيَةٍ اقْترفتها ، ولا بدّ من مخالفةٍ وقعْتَ بها ، لا بدَ من تقصيرٍ بدَر منك ، ولا بدَّ من تَطاوُلٍ تكلَّمْت به ، ولا بدّ من شِرْك ، ومن اعْتِمادٍ على غير الله تعالى هكذا الأدَب ، إذا وقعْت في مشكلةٍ فاتَّهِم نفْسكَ ، أما إذا رأيْت أنَّ أخاك قد وقعَ في مشكلة فإيَّاك أن تتَّهِمَهُ ، فهذا من سوء الأدب وعليك أن تقول : هذه مصيبة أرْجو الله أن يرفعهُ بها ، فهذه اعْتبِرْها مصيبة رَفْع أما لك فاعْتَبِرْها مصيبة عِقاب ، وكما تعلمون هناك مصيبة القصْم ، وهناك مصيبة الرَّدع ، وهناك مصيبة الدَّفع ، وهناك مصيبة الرَفع ، وهناك مصيبة الكَشف ، فالقصْم لمَّا يسْتوفي الإنسان كلّ رغباته في الدنيا ويريد أن يفجر ويؤذي ، عندئذٍ يقْصِمهُ الله عز وجل ، هذه مصيبة القَصْم ، إذا طغي ، وبغى ، واعتدى ، وتكبَّرَ ، وأصْبحَ يزْدادُ شرًّا كلّ ساعةٍ فرحْمةٍ به يقْصمهُ الله سبحانه وتعالى ، أما مصيبة الرَّدع فقد ينْحرفُ الإنسان ، قد يأكل مالًا حراماً فيفقد أموالًا طائلة ، أكل أمس فأذهب أموالاً طائلةً ، مصيبة قاسية جدًّا ، هذه مصيبة الردع ، أما مصيبة الدفع ؛ مؤمن مستقيم لكنه مقصِّرٌ ، فتأتي المصيبةُ لتدفعه إلى الأمام ، أما الرفعُ مؤمن مستقيم و يسرع في طريقه إلى الله ، لكنه يحتمل ، و مادام يحتمل فيضاعف اللهُ له أجره بهذه المصيبة ، و أما الأنبياء ففي أنفسهم من الكمال ما لا يبدو إلا في المصيبة ، أي فيه آلات أو فيه محرِّكاتٌ جبَّارةٌ ذاتُ قوى عالية جدًّا لا تبدو إلا في طرق وعْرة جدًّا و في صعود حادٍّ جدًّا و إلا محرِّك آخر أدنى بكثير يقوم بهذه المهمَّة ، فهذه مصيبة الكشف ، و على كلٍّ إذا أراد اللهُ بعبده الخيرَ عجَّل له العقوبةَ في الدنيا ، و إذا أراد اللهُ بعبده الشَّرِّ أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ، هذه الفكرةُ ضعْها في ذهنك ، إذا عجَّل اللهُ لك العقوبةَ فأنت محبوبٌ ، فأنت مرغوبٌ ، فأنت مطلوب ، محبوب و مرغوب و مطلوب ، و إذا تُرِكْت هملًا والعياذ بالله ، المصيبة عندئذ أن تُترك هملًا من دون عقاب .
كلُّكم يعلم أب عنده ثلاثة أولاد ، ولد ابن ذكيٌّ و متفوِّقٌ ، و ابنٌ آخر ذكيٌّ و مقصِّر، وابنٌ ثالث أبله ، فهذا الأبُ لن يضيِّق على الأبلهِ لعدم الجدوى على التضييق عليه ، فيدعه و شأنه لا يحتاج إلى تأديب ، لكنَّ تأديب هذا الأب ينصبُّ على الابن الثالث الذكيِّ المقصِّر ، فالإنسان لمَّا يقصّر يبْتَلِيه اللهُ عز وجل ، فإذا تفوّق ربَّما ابتُليَ بنوع آخر ، فإذا تفوَّق في معرفة الله عز وجل له امتحاناتٌ من نوع أخر أرقى ، هناك متاعب مقدَّسةٌ و هناك متاعب مؤدِّبةٌ ، و هناك متاعب فيها عقوبة .
إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه :
و قال النبيُّ عليه الصلاة و السلام :
((عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ))[ الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
رواه الترمذي و قال حديث حسن ، الشقُّ الثاني من الحديث يؤكِّد المعنى الأول . ملخَّص هذه الكلمة المطوَّلةُ حول هذين الحديثين أنك إذا شعرتَ أن اللهَ يتابعك بالعقاب فهذه بادرةٌ طيِّبةٌ جدًّا ، و أنت محبوبٌ و مرغوبٌ و مطلوبٌ ، و إذا شعرت أن الله قد ترك الإنسانَ هملاً بلا عقاب مع إساءته ، و مع تقصيره ، و مع معصيته ، فهذه علامةٌ خطيرةٌ على أن الله سبحانه و تعالى تركه هملاً .* * *