هنا جلال المدير
عدد المساهمات : 24470 نقاط : 64474 السٌّمعَة : 8 تاريخ التسجيل : 18/12/2012
| موضوع: ما هو القلب؟ الخميس أغسطس 10, 2017 12:24 am | |
| ما هو القلب؟
ابدأ هذا الباب بسؤال: قد يقوم إنسان بعملية زراعة قلب، ويحيا بقية حياته بقلب رجل آخر، فهل تتغير مشاعره وتتبدل أفكاره وعواطفه تبعاً لهذا القلب الذي زرع فيه؟! كلا، فالمشاهد أنه لا يتغير دينه ولا محبته لأهله وقرابته، وهذا دليل دامغ على أن كل ما يظنه الناس من وظائف القلب ودوره في الحب والعاطفة، واعتباره مركز الفكر ومواطن العقائد والسلوك مسألة فيها نظر، فهل يتعارض هذا مع ما ورد في القرآن والسنة من ذكر القلب مرتبطاً بهذه المعاني؟! لقد استطاع الإمام أبو حامد الغزالي ان يحل هذه الإشكالية ويميز بوضوح بين المعنيين اللذين يختلطان في اذهان كثير من الناس, فقال رحمه الله في كتاب عجائب القلب من موسوعته القلبية (إحياء علوم الدين) كلاماً كالبشرى بالولد الكريم يُقرع به سمع الشيخ العقيم وجاء فيه: "لفظ القلب وهو يطلق لمعنيين: أحدهما: اللحم الصنوبري الشكل، المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهو لحم مخصوص، وفي باطنه تجويف، وفي ذلك التجويف دم أسود هو منبع الروح ومعدنه، ولسنا نقصد الآن شرح شكله وكيفيته، إذ يتعلق به غرض الأطباء، ولا يتعلق به الأغراض الدينية، وهذا القلب موجود للبهائم؛ بل موجود للميت, ونحن اذا اطلقنا لفظ القلب في هذا الكتاب لم نعن به ذلك، فإنه قطعة لحم لا قدر له, وهو من عالم الملك والشهادة، إذ تدركه البهائم بحاسة البصر فضلاً عن الآدميين. والمعنى الثاني: هو لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، وهو المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمعاقب والمعاتب والمطالب، ولها علاقة مع القلب الجسماني" (الإحياء: 3/3). والمقصود انه إذا أطلقنا لفظ القلب في هذا الكتاب أردنا به المعنى الثاني، وهدفنا هو ذكر أوصاف الروح وأحوالها التي تعتبر سراً مغلقاً، والتعرض لأصناف النفوس وتقلباتها رغم انها أمر مبهم، ورغم ان آيات وأحاديث القلب قد يشتبه في بعضها الأمر ويتبادر الى الذهن أنها مرتبطة بالقلب العضلي، إلا أن المقصود منها على الحقيقة: القلب المعنوي، كما قال الإمام الغزالي: "وحيث ورد في القرآن والسنة لفظ القلب، والمراد به المعنى الذي يفقه من الإنسان، ويعرف حقيقة الأشياء، وقد يُكنَّى عنه بالقلب الذي في الصدر; لأن بين تلك اللطيفة وبين جسم القلب علاقة خاصة" (السابق: 3/5). لكن لماذا الحديث عن القلب بالذات دون سائر الأعضاء؟!، لقد أحصيت في هذا الباب عشرين سبباً لهذا، وتبدأ بما يلي: 1-إنه الملك: القلب أمير الجسد وملك الأعضاء, فهو راعيها الوحيد وقائدها, وإنما الجوارح والحواس تبع له وآلات تصدع بما تؤمر, فلا تصدر أفعالها إلا عن أمره, ولا يستعملها في غير ما يريد, فهي تحت سيطرته وقهره, ومنه تكتسب الاستقامة أو الزيغ, وبين القلب والأعضاء صلة عجيبة وتوافق غريب بحيث تسري مخالفة كل منهما فورا الى الآخر, فإذا زاغ البصر فلأنه مأمور, وإذا كذب اللسان فما هو غير عبد مقهور, وإذا سعت القدم الى الحرام فسعي القلب أسبق, لهذا قيل عن المصلي العابث في صلاته: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه", وقال صلى الله عليه وسلم لمن يؤم من المصلين: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم» [رواه أحمد ومسلم والنسائي], فأعمال الجوارح ثمرة لأعمال القلب, والخلاصة: القلب هو خط الدفاع الأول والأخير, فإذا ضعف القلب أو فسد أو استسلم انهارت الجوارح!! وفي المقابل إذا ذكر العبد ربه فلأن القلب ذَكَرَ, وإذا أطلق يده بالصدقة فلأن القلب أذِن, وإذا بكت العين فلأن القلب أمر, فالقلب مملي الكلام على اللسان إذا نطق, وعلى اليد إذا كتبت, وعلى الأقدام إذا مشت, وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم للقلب حقه ومكانته حتى وصفه بأنه: «مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله» [رواه البخاري ومسلم], وتوجه أول ما توجه إليه ليربيه ويهتم به ويزكِّيه. فكل الأفعال مردها إلى لقلب وانبعاثها من القلب, وكل الأفعال تعني كل الأفعال ولو كانت لبس ثيابك وزينة بدنك!! وهذا ما أدركه مستودع القرآن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: "لا يشبه الزي الزي حتى تشبه القلوب القلوب" (الزهد لهناد:1/438) هدف الحبيب الأول قالت ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "انما نزل أول ما نزل منه(القرآن) سورة من المُفصّل فيها ذكر الجنة والنار, حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام, ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا, ولو نزل: لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا" [رواه البخاري] فقد حرَّم الله الخمر في العام الثاني من الهجرة أي بعد البعثة بخمسة عشر سنة, وفرض الزكاة في العام الثاني من الهجرة كذلك, وفرض الحجاب في العام السادس من الهجرة بعد تسع عشرة سنة من بعة النبي صلى الله عليه وسلم, وهي كلها تكليفات تأخر نزولها حتى زكى القلب ولان وتمكَّن منه الحق واستبان. ولشرف القلب جعله الله أداة التعرف عليه ووسيلة الإهتداء إليه, بل إذا غضب الله على عبد كان أقصى عقوبة ينزلها به أن يحول بينه وبين قلبه, وحيلولته هي أن يحرمه من معرفته وقربه, لذا كان الاهتمام به تعبير عن الاهتمام بالأهم عن المهم وبالأصل عن الفرع. 2- الهدف المشترك وقد أدرك الشيطان دور القلب ومكانه فلم يضييع وقته في معارك جانبية او مناوشات هامشية, بل صوب جهده نحو هدف واحد وغاية ثابتة. قال ابن القيم: "ولما علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه; أجلب عليه بالوساوس, وأقبل بوجوه الشهوات إليه, وزيَّن له من الأقوال والأعمال ما يصده عن الطريق, وأمدَّه من أسباب الغي بما يقطعه عن أسباب التوفيق, ونصب له من المصايد والحبائل ما إن سلم من الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق" (اغاثة اللهفان من مكائد الشيطان:ص10) فالقلب هو الهدف المشترك بين الملك والشيطان, كلاهما يستهدفه, فهو موضع الصراع, والنقطة الملتهبة, وساحة القتال, وأرض المعركة, ونتيجة هذه المعركة: إما هداية القلب وحياته, وإما قساوته وموته وهلاكه, فواعجباً ممن أخذ نصيحة العدو, وردّ وصية الحبيب, واشترى صداقة الشيطان بعداوة الملائكة, وأعلن الحرب على ما تبقى من إيمانه بالتعاون مع عدوه اللدود, وهي صيحة التعجب التي سبق وأن أطلقها ابن الجوزي حين قال: "كيف طابت نفسك أن تكون ظهيراً لفئة النفس على فئة القلب, وفئة القلب مؤمنة وفئة النفس كافرة؟!" (التذكرة:ص197) عن الجوارح مختلف وقد يقول قائل: لكن الأعضاء والجوارح كذلك مستهدفة من قبل الملائكة والشياطين, فما الفارق بينها وبين القلب؟! وأقول على لسان أبي حامد الغزالي الذي بيَّن الفارق الجلي في قوله: "العوارض له أكثر, فن الخواطر له كالسهام, لا تزال تقع فيه, وكالمطر; لا تزال تمطر عليه ليلاً ونهاراً لا تنقطع, ولا أنت تقدر على منعها فتمنع, وليس بمنزلة العين التي بين الجفنين, تغمض وتستريح, أو تكون في موضع خال, أو ليل مظلم فتُكفى رؤيتها, أو الليان الذ وراء الحجابين: الأسنان والشفتين, وأنت قادر على منع وتسكينه, بل القلب غرض للخواطر, لا تقدر على منعها والتحفظ عليها بحال, ولا هي تنقطع عنك بوقت" (منهاج العابدين:ص95) 3- طهارته شرط الدخول والسبب الثالث في أهمية القلب أن طهارته شرط دخول الجنة, لذا ذم الله خبثاء القلوب فقال: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41], والآية دليل دامغ على أن من لم يطِّهر قلبه فلا بد أن يناله الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة, ولذا حرَّم الله سبحانه الجنة على من كان في قلبه مثقال ذرة من خبث, قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» [رواه مسلم] ولا يدخلها أحد إلا بعد كمال طيبه وطهره, لأنها دار الطيبين, ولذا يُقال لهم وهم على مشارف الجنة: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] ويبشرون عند موتهم دون غيرهم على لسان الملائكة الكرام: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] قال ابن القيم: "فالجنة لا يدخلها خبيث, ولا مَن فيه شيء من الخبث, فمن تطهَّر في الدنيا ولقي الله طاهرا من نجاسته دخلها بغير معوِّق, ومن لم يتطهر في الدنيا; فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحال, وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر في النار من تلك النجاسة, ثم يخرج منها حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط حُبسوا على قنطرة بين الجنة والنار, فيهَذَّبون وينقَّون من بقايا بقيت عليهم قصرت بهم عن الجنة, ولم توجب لهم دخول النار, حتى إذا هُذبوا ونقوا أُذن لهم في دخول الجنة" (إغاثة اللهفان:ص71) من أجل ذلك جاء الأمر الرباني جازماً للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] قال ابن القيم: "وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على ان المراد بالثياب ها هنا القلب, والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق" (إغاثة اللهفان:ص67) النجاسة الكبرى قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] فعبر سبحانه وتعالى عن نجاستهم بالمصدر للمبالغة; وكأنهم عين النجاسة لأن خبائث الباطن أولى بالاجتناب وهل أخبث من الشرك؟! فإن خبائث القلب مع خبثها في الحال مهلكات في المآل, ومعنى آخر: هو أن الطهارة والنجاسة غير مقصورة على الظاهر, فالمشرك قد يكون نظيف الثوب مغسول البدن ولكنه نجس القلب, وهذا الذي ذهب إليه أهل المذاهب الأربعة الى أن الكافر ليس بنجس الذات لأن الله سبحانه أحل طعامهم, وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من فعله وقوله, فأكل في آنيتهم, وشرب منها, وتوضأ فيها, وأنزلهم في مسجده. وإضافة الى هذا; فالنجاسات المعنوية ليست على درجة واحدة بل تتفاوت, وليس محلها قلوب الكفار فحسب, بل قد توجد في قلوب المسلمين, فالغضب والكبر والحسد وغيرها من أمراض القلوب نجاسة, وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد قال: «لا تدخل الملائكة بيت فيه كلب ولا صورة» [رواه البخاري ومسلم], فإن أبا حامد الغزالي قد تأمل في هذا الحديث تأملاً قد يكون بعيداً عن الظاهر لكنه ذو دلالة فقال: "والقلب بيت هو منزل الملائكة, ومهبط أثرهم, ومحل استقرارهم, والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة, فأنَّى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب, ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب إلا بواسطة الملائكة, وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء, وهكذا ما يرسل من رحمة العلوم الى القلوب إنما تتولاها الملائكة الموكلون بها, وهم لامقدسون المُطهَّرون المُبرَّءون عن الصفات المذمومات, فلا يلاحظون إلا طيبا, ولا يعمرون بما عندهم من خزائن رحمة الله إلا طيبا طاهرا" (الأحياء:1/49) 4- موضع نظر الله من القلوب قلب كقبور الموتى ظاهرها الزرع والورد وباطنها الجيف والموت, أو كبيت مظلم على سطحه سراج وباطنه ظلام, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في هذا: «ان الله لا ينظر الى صوركم وأموالكم, ولكن إنما ينظر الى أعمالكم وقلوبكم» [صححه الألباني] إنها حياة القلب وإن كانت البطون خاوية والثياب بالية, وقد أبان الحديث أن القلب هو موضع نظر الرب, فلا عبرة إذن بحسن الظاهر مع خبث الباطن, فاعجب ممن لا يعتني بمظهره وهندامه الذي هو محل نظر الخلق; فيغسل ثوبه ويعطَّره, وينظف بدنه ويطهِّره, ويتزيَّن بما أمكن, لئلا يطَّلع مخلوق على عيب فيه, ولا يهتم بقلبه الذي هو محل نظر الخالق; فيطهِّره ويزيِّنه لئلا يطلع ربه منه على دنس أو خبث أو أحد غيره. ومعنى آخر من الحديث قاله ابن الجزري: "النظر ها هنا الاختيار والرحمة والعَطف لأنَّ النظر في الشاهد دليل المحبة, وترك النظر دليل البُغض والكراهة" (النهاية في غريب الحديث والأثر:5/77) وتأمَّل ما يلي لتعلم أهمية القلب: إن العمل قد يكون ظاهره العصيان وصاحبه مثاب, كأن ينطق الرجل بكلمة الكفر مُكرَها وقلبه مطمئن بالإبمان, أو يشرب مُسكِرا بغير رضاه, وفي المقابل قد يكون ظاهر العمل الاحسان وصاحبه في النار, كأن يُقتل المرء في ساحة قتال ليتغني الناس بشجاعته, وينفق ماله في طرق الخير ليُثني الناس على كرمه, ويقرأ القرآن ليلفت إليه أعناق الغير, والقلب في كل هذه الأحوال واقف وحده في قفص الاتهام أو مُسجَّل بأزهى الحروف في لوحة الشرف. مذنب وبريء!! وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا عملت الخطيئة في الأرض؛ كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، و من غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها» [رواه ابو داود وحسنه الألباني] سبحان الله! غائب عن ساحة الجريمة لكنه أول المتهمين واسمه في سجل المذنبين, وآخر حضر الجريمة بنفسه ورآها بعينه ومع ذلك يأتي الحكم له بالبراءة!! والسبب في ذلك كله القلب الذي أنكر فسلِم أو رضي فأثم. وفي الحديث بشارة ونذارة; بشارة لمن اضطر الى حضور مجلس يُعصى الله فيه ولم يستطع أن ينكره بيده أو بلسانه بل ولم يقدر حتى على مغادرة المكان; فيقوم القلب بالواجب وينبري للإنكار, ونذارة لرجل أراد الله له الخير فأبى لنفسه إلا الشر, وعصمه من المنكرات فأبى إلا التلطخ بها, وصرف جسده عن مكان الإثم فسافر إليه بقلبه وروحه فعرقب بمساواته مع مرتكب الجرم. إنه القلب حين يزني!! نعم يزني, ومع شدة وقع هذه الكلمة على النفس إلا ان الذي أطلقها هو من وصفه ربه أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم, ومن رحمته ورأفته بأمته تحذيره الصريح لها بقوله: «وزنا القلب: التمني» [رواه أحمد]. قال الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا: "زنا القلب التمني: أي يهوى وقوع ما تحبه النفس من الشهوة" (الفتح الرباني:16/73) إن للقلب كسباً ككسب الجوارح وعملاً كعملها, والله سبحانه أعلن أنه يؤاخذ على كسب القلب ثوابا وعقابا, فقال سبحانه: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225] ويشهد لعمل القلب هذا وأن الله يحاسب العبد عليه حديث: «اذا التقى المسلمان بسيفيهما , فقتل أحدهما صاحبه, فالقاتل والمقتول في النار» قيل: "يارسول الله!! هذا القاتل فما بال المقتول؟" قال: «إنه كان حريصاً على قتل صاحبه» [صححه الألباني] فدخل هذا المسلم النار بشيء وقر في قلبه وهلك بسبب عمل قلبي; ليس غير. الظاهر والباطن!! نعم.. صورة القلب هي الأصل, فإن وافق الظاهر الباطن كان ما في القلب حقيقيا, وإن خالف الظاهر الباطن كان ما في القلب مزيفا, وعلى القلب أيضا يتوقف صحة الظاهر أي قبوله عند الله, أما عند الناس فإنهم مكلَّفون بقبول الظاهر فحسب والحكم على أساسه والله يتولى السرائر, ومن هنا كان مقصد الشهادتين هو توجيه رسالة ملموسة الى الناس بإسلام الناطق بها, في حين أن الله وحده هو المطلع على غير الملموس من محتوى الباطن, وقد نطقت ألسنة المنافقين بالشهادتين, فعصمت دماءهم في الدنيا, لكن مستقرهم في النهاية هو الدرك الأسفل من النار بما حوت قلوبهم واسمعوا إلى ارتباط الظاهر بالباطن في قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31], فإن حب الله في القلب يورث اتباع الجوارح ولا بد; وإلا كان ادعاء وكذبا وزورا. 5- النافع الوحيد قال عز وجل: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88،89] فلا القول ينفع ولا العمل يشفع بل سلامة القلب هي أصل كل نجاة؛ كما أن فساده أصل كل بلية، لكن ما هو القلب السليم؟! والجواب: هو القلب الذي سلم من كل شيء إلا من عبوديته لربه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر؛ فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يُمدح به" (الفتاوي الكبرى:5/249) وتأمل كيف جعل الله المال والبنون بمعنى الغنى، كأن المعنى: يوم لا ينفع أحد غناه إلا غنى من أتى الله بقلب سليم؛ لأن غنى الرجل الحقيقي هو في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وولده، وعلى هذا يكون من معاني القلب السليم أي من فتنة المال والبنين. لكن تلميذا نجيبا من تلامذة ابن تيمية أفاض في شرح معنى القلب السليم؛ يبغي بذلك إزالة أي لبس أو غموض حتى يسهل الوصول إلى المراد، فقال الإمام ابن القيم: "والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مرده، وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله، فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي جنة يوم المعاد، ولا يتم له سلامته مطلقا حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص، وهذه الخمسة حُجُب عن الله" (الجواب الكافي:ص84) وفي آية سورة ق: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ(32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} [ق:32،33] وتأمل قوله تعالى في سورة الشعراء: {أَتَى}، وفي ق: {وَجَاء}، وكأن المعنى الذي يريد أن يوصله لك ربك: ائتني بقلب سليم وجئني بقلب منيب تنجُ من عذابي وتنل رضائي، فأنت يا أخي وحدك الذي تملك أن تأتي بمثل هذا القلب وليس أحد غيرك. وفي المقابل قد يدخل عبد النار بسبب قلب كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] بل إن حال العبد في قبره ما هو إلا انعكاس لحال قلبه في الدنيا كما قرَّر ذلك ابن القيم وهو يزيدنا في كتابه زاد المعاد: "فحال العبد في القبر كحال القلب في الصدر نعيما وعذابا وسجنا وانطلاقا". (زاد المعاد:2/22)
|
|