القرائية
طريقة تدريس تركز في تحليل المحتوى
لتكوين عادات عقلية ذاتية في إطار التعلم النشط
(1)
نعيش الآن زمن القرائية؛ فهذا المصطلح له الرواج في وزارة التربية والتعليم، وتُعْقَدُ له الدورات التدريبية، ويعد من يحضر دوراته حاصلاً على ترقية.
وككلِّ جديد أُنشِئتْ له إدارات بدءًا من الوزارة، ومرورًا بالمديريات التعليمية وإداراتها، حتى المدارس، وتكوينها معلوم مشهور.
وإن كنتَ معلمَ لغة عربية، فإنك ستسأل: لِمَ اختير هذا المصطلح؟
إن دورات التنمية البشرية استحدثت أنواعًا كثيرة من القراءة، مثل القراءة التصويرية، والقراءة السريعة، وقبلَها كانت هناك القراءة الناقدة، والقراءة الإبداعية، و...، و... إلخ؛ فلماذا لم يُختَرْ أيُّ مصطلح سابق لهذه العملية؟
أيكون المراد هو ما يُفهَمُ من النوع الاشتقاقي للكلمة؛ من كونها مصدرًا صناعيًّا يدل على الخصائص المميزة للاسم المشتق منه ذلك المصدر، فتكون القرائية هي تلك الخصائص التي تُميِّز القراءة، وتجعلها قراءة مفيدة؟
أم يكون المصطلح جديدًا؛ تمييزًا للقراءة التعليمية المُتَّبعَةِ في وزارة التربية والتعليم عن القراءات الأخرى المصاغة في دورات؟
أم يكون الأمر هو دمجَ ما ينتشر في دورات التنمية البشرية بتعديل يلائم المدارس؟
أيًّا كان الأمر، فإن مصطلح القرائية قد استقرَّ وانتشر وذاع في مستويات الوزارة المختلفة، فهيَّا نُبحِر معه لنرى جديدَه من قديمه!
(2)
كعادتنا فإن هذا المصطلح، وهذا المفهوم وإجراءاته، ليست من بَنات أذهاننا، إنما هو منتج أمريكي بَحْتٌ.
كيف؟
يقول الدليل الإرشادي في تنمية مهارات القراءة للصف الأول الابتدائي الذي أصدرته وزارة التربية والتعليم 2011م في صفحته الأولى: "هذا الدليل الإرشادي هو أحد منتجات مشروع "تحسين الأداء التعليمي للبنات" GILO، والمشروع هو أحد المبادرات التنموية للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بمصر بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم في المدة من 2008 إلى 2011م، ويهدف المشروع إلى تحسين نوعية التعليم ونتائج التعلُّم للبنات في المراحل التعليمية من الروضة إلى نهاية الصف الثالث الإعدادي...، وتقع مسؤولية تنفيذ المشروع على شركة آر تي آي إنترناشيونال مقاولاً رئيسًا، ويعاونها في التنفيذ مجموعة شركاء، هم: هيئة التعليم العالمي، وشركة كيز تو إفكتيف ليرنينج، وشركة سي آي دي إنك، وشركة إنفونكس.
وقد أُنتِجَ هذا الدليل بمساندة الشعب الأمريكي من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والآراء والفِكر المتضمنة في هذا المحتوى لا تعكس آراء الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أو الحكومة الأمريكية؛ وإنما هي مسؤولية المشروع".
ثم يسرد الدليل المشكورين وعلى رأسهم وزارة التربية والتعليم بمصر ص3، ثم في التقديم ص5 يوضِّحُ المنطلق المتمثل في اتفاقية التعليم للجميع، ثم يوضِّح خطوات العمل التي بدأت بتكوين الوزارة فرقَ عملٍ من خبراء اللغة العربية؛ لمناقشة الكثير من الوثائق بمساعدة الدكتورة سيلفيا لينان ثومبسون اختصاصية القراءة، ثم كانت الخطوة الثانية في صنع أدلة تعليم القراءة.
ثم بين الدليل ص6 أن وكيل الوزارة الأول رضا أبو سريع قرَّر مع مستشار اللغة العربية 2011م إلزامَ كل مدارس الوزارة بتنفيذ الطريقة الصوتية بعد نجاحها في المدارس التجريبية.
هذه هي قصة هذه الفكرة وفلسفتها، فما أسسها الفكرية والإجرائية؟
(3)
يسرد الدليل ص9 الأهداف والإجراءات فيقول: (أُعدَّ هذا الدليل ليزَوِّدَ المعلمَ بالأدوات والوسائل والمواد التي قد تشارك في معالجة الفجوات القائمة في عملية إكساب التلاميذ مهاراتِ القراءة باستخدام الوعي الصوتي، والطريقة الصوتية وإستراتيجيات الفهم القرائي، ودعم المنهج القومي؛ مما يؤدي إلى: تمكين التلاميذ من فك رموز النصِّ المكتوب؛ أي: هجاء الحروف بهدف قراءة الكلمات، وتمكين التلاميذ من القراءة الملائمة مع مراعاة الدقة، وتمكين التلاميذ من التقدم علميًّا في المواد الدراسية كافة، وجعل التلاميذ تكتسب مهارات التعلم الذاتي، والتعلم المستمر مدى الحياة، وجعل القراءة هواية محببة لدى التلاميذ).
ثم يُحدِّدُ في الصفحة ذاتها محاور المنهج، فيذكر (الوعي الصوتي الذي يعني: التمكنَ من سماع الأصوات، والتلاعبَ بالأصوات داخل الكلمات، والطريقة الصوتية التي تعني: القدرةَ على ربط الأصوات بالحروف، واستخدام الأصوات لقراءة الكلمات، والطلاقة التي تعني: القدرةَ على قراءة الكلمات بمفردها أو داخل نصٍّ من دون جهد وبسرعة وبدقة، ونمو المفردات والحصيلة اللغوية اللتين تقصدان فهمَ الكلمات، واستخدامَها، ونقلَ المعاني وتوصيلها، والفهم القرائي الذي يعني: عمليةَ تفكير مركبة، يستطيع من خلالها القارئ بناءَ وإدراكَ المعنى من خلال النصِّ المقروء).
ثم يذكر الإجراءات العامة المتمثِّلة في: التمهيد، ووصف المهارة، والتكرار، والنموذج، والممارسة الموجهة، والممارسة المستقلة والتطبيق.
(4)
وبعد أن أنهينا هذه الضجَّة حول المحاور والإجراءات، أسأل: هل هذا الكلام جديد علينا؟
والجواب الذي يحضر في ذهن كل من ذهب إلى الكُتَّاب: لا، ليس جديدًا؛ فهو الذي كان يمارسه سيدنا شيخ الكُتَّاب، وهو ما يسمى بالطريقة الجزئية التي تخلَّيْنا عنها سنوات؛ اتباعًا للغرب، ثم عدنا إليها - أيضًا - اتباعًا للغرب.
وبعد توضيح هذا الواقع، نُعرِّجُ على الطرق المتبعة في الأداء المسماة بالإستراتيجيات على وفق ما جاء في الدليل الإرشادي للصف الثالث الابتدائي، الذي ذكر الوكالة الأمريكية والمقاول الرئيس، والمعلومات ذاتها التي ذكرها دليل الصف الأول، ثم بيَّن ص3 هدفه قائلاً: (يهدف هذا الدليل إلى بناء قدرات المدربين على مهارات القراءة؛ ليتمكنوا من تدريب معلمي الصف الثالث، وقد صُمِّمَ هذا الدليل على وفق مبادئ تعلم الكبار، والتعلم بالخبرة الذي ينهض على إيجابية المشارك).
ثم أخذ يعرض الدروس، ويعرض طرق الأداء التي تتفرع فرعين رئيسين، هما:
1- طرق تتصل بالمفردات وكيفية فهمها، وهي: شبكة المفردات التي تعني حصرَ أكبر قدر من الكلمات التي لها صلة بالكلمة المرادة، وهي تتصل بالحقول الدلالية المعجمية، وعائلة الكلمة التي تعالج موضوع الاشتقاق، بعيدًا عن التنظير، وتتصل - أيضًا - بالحقول الدلالية، وخريطة الكلمة التي تُوضِّحُ المرادفَ والمضادَّ، والنوع، والتركيب بوضع الكلمة في جملة، والمعاني المتعددة التي تتصل بظاهرة المشترك اللفظي، الذي يدرس الكلمات التي لها أكثرُ من دلالة يُحدِّدُها السياق، ومفاتيح السياق المرتبطة بالمسألة السابقة التي تكشف معنى الكلمة، والصفة المضافة التي تُعالِجُ مسألةَ النعت المقيد الدلالة والكاشفها.
2- طرق تتصل بالفهم، وهي: التوقع من خلال الصورة أو العنوان أو النصِّ، وهي تكهن بالمحتمل الذي قد يصح وقد لا يصح، والمراقبة الذاتية التي تعني: أن يقف القارئ ليستوعِبَ ما مضى، ويتكهَّن بما بقي من خلال أسئلة يجريها على المقروء، والأسئلة المباشرة المسؤول عنها بـ"أين، ومتى، وماذا، ومن، وما"، والأسئلة غير المباشرة المسؤول عنها بـ"كيف، ولماذا"، والتلخيص، وخريطة القصة المبينة مكونات القصة الفنية: من أحداث، وشخصيات، وزمان، ومكان، وغير ذلك، وإعادة السرد وهي القدرة على صياغة جديدة للمقروء أو المسموع.
وكلها طرق تَندرِجُ تحتَ وسائل التعلُّمِ النشط، الذي يهدفُ إلى ابتكار وسائلَ يكون فيها المتعلِّمُ هو سيدَ الموقف التعليمي: كالتعلم التعاوني، والتعلم بالأدوار، وتعلم الأقران، والتعلم بالمناقشة والحوار والعصف الذهني، والتعلم بالاكتشاف، و... إلخ.
هذا ما خطط له؛ أن تندرج هذه الأمورُ لتنتمي إلى التعلم النَّشِط الذي يكون فيه المعلم مرشدًا ومُوجِّهًا، ومُيسِّرًا، ومُحفِّزًا ومساعدًا، ويكون فيه المتعلم مشاركًا بفاعلية، ويعمل على حل المشكلات، ويستخدم المعلومات في الحاضر والمستقبل، ويصل إلى المعلومة بنفسه، ويتعاون مع الآخرين و... إلخ.
فهل هذا ما ينفِّذُه المعلمون الذين حضروا الدورات أو لم يحضروها؟
الواقع في نسبة كبيرة منه - لأنني لا أحيط به - يقول: لا.
كيف؟
إن المعلمين يحرصون على المهارة العقلية الأولى، وهي الحفظ، وهي جد مهمة، لكن لا يجب أن نكتفي بها، أو نقف عندها فقط، بل يجب أن تكون خطوة من خطوات هي الفهم والتطبيق والتحليل والتركيب والتقويم.
هل هناك من يغرس تلك الخطوات في نفوس التلاميذ؟
قليلون.
ما النتيجة؟
النتيجة أنك تجد التلاميذ حافظين، لكنهم لا يستطيعون التفاعلَ مع الكتاب التفاعلَ الصحيح؛ فإنهم يقتصرون على حفظ كلمات الدرس وكتابته، أما الأسئلةُ، وفهمُها، ومعرفةُ التعامل معها، فهذا غير موجود، بل يجيب المعلم، والتلاميذُ ينقلون، وإنك تجد التلميذ يقرأ كلمات السؤال، لكنه لا يحاول فهمَها والإجابةَ في ضوئها.
لماذا؟
لأن معلمه لم يعوِّدْه ذلك.
(5)
ولو استمرَّ الحال هكذا، فإن هذا المخطط الجديد - بغض الطرف عن مصدره - لن يؤتي ثمارَه على المستوى العام، فهل ينتبه المعلمون وأولياء الأمور؟
أدعو!