عصام الغزالي.. هارب من الأضواء!
بقلم: د. حلمي محمد القاعود
.........................................
هذا شاعر من طراز خاص، درس الهندسة، وتخرج في جامعة القاهرة، 1972م، ثم درس علوم الدين والشريعة الإسلامية، وتخرج في كلية أصول الدين بالرياض عام 1398هـ 1978م، فهو يمزج في ثقافته بين العلم والدين، وبين التجربة والوحي، ويملك بهذا أفقاً عريضاً ومتسعاً للرؤية والتصور، وإذا أضيف إلى ذلك حس فني مرهف وموهبة شعرية ساطعة، أدركنا لماذا هو شاعر من طراز خاص.
وأحمد عصام الدين الغزالي خليل، أو عصام الغزالي، كما يعرف بين الأدباء والشعراء، من شعراء السبعينيات في مصر، وينتمي إلى الشعراء الذين سميتهم "بالورد" في مقابل من سميتهم "بالهالوك"، وكان بودي أن أخصص له فصلاً في كتابي "الورد والهالوك" ـ صدرت منه طبعتان: 1993م، 1994م ـ لولا ظروف حالت دون أن تكون دواوينه تحت يديَّ.
وقد أنتج عصام الغزالي شعراً كثيراً ضمته خمس مجموعات طبعها جميعاً على نفقته الخاصة وهو من المميزات التي تجعله طرازاً خاصاً مع أن هناك من دور النشر فيما أعلم من يرحب بنشر إنتاجه، ولكنه آثر أن يوزع شعره من خلال دار الوفاء في المنصورة، وهي المدينة التي ولد فيها عام 1945م، ويعيش فيها حتى الآن.
ومجموعاته الخمس هي "الإنسان والحرمان" 1970م، "لو نقرأ أحداق الناس" 1978م، "أهددكم بالسكوت" 1994م، "دمع في رمال" 1995 (إصدار ثان) ثم "هوى الخمسين" 1999م.
وعصام الغزالي يأخذ موقفاً من الحركة الأدبية، أو تأخذ منه الحركة الأدبية موقفاً، فهو يعيش مثلي بعيداً عن أضواء القاهرة وصحافتها ونقادها، ويستشعر تبعاً لذلك أنه مظلوم، ومعه حق، مع أن كاتباً صحفياً كبيراً كتب عنه في عموده اليومي، ولكنه يحتاج مع ذلك إلى ناقد متخصص يغازل شعره أو يطارحه الدرس والنقد، ثم إن رؤيته الإسلامية التي تتضح في شعره تجعل الحركة الأدبية
ومعظمها مشدود إلى تصورات مغايرة تتجاهله ولا تحتفي بموهبته، وفي داخل هذه الحركة من لا يلتفت إلى التصورات أو القيمة الفنية أساساً، بل يعتمد على ما يمكن تسميته بالعلاقات العامة وخاصة في مجال النشر والتعريف، وعصام الغزالي من النوع الذي ينفر من هذه العلاقات... فهو يعتز بذاته اعتزازاً كبيراً، يجعله يترفع عن استجداء الاهتمام بشعره وطلب التعريف به.. هذا وغيره من الأسباب جعل شعر عصام الغزالي بعيداً عن قطاعات عديدة من الجمهور، وإن كانت القطاعات التي قرأته وعرفته قد تمسكت به شاعراً مرموقاً له خصائصه الشعرية، وسماته الفنية.
وبصفة عامة، فإن شعر عصام الغزالي يدور حول محاور عديدة، منها ما هو تقليدي مثل الغزل والرثاء والإخوانيات والتوبة والاستغاثة والهجاء والغربة، ومنها ما هو مستجد ومستحدث مثل المواجهات الثائرة الغاضبة الحالمة ضد عناصر القهر والاستبداد والطغيان ثم مطالبته بالعدالة الاجتماعية، ورفض العنصرية، ولا ريب أن الشاعر يعالج محاوره معالجات متفاوتة، منها ما هو أقرب إلى الرصد والتسجيل، ومنها ما يتجاوز ذلك إلى طرح الحلول والإجابات، ولكن الرؤية بشكل عام محكومة بالتصور الإسلامي، الذي يصل بالشاعر أحياناً إلى حد الزهادة في الحياة. ويصوغ الشاعر تصوره أحياناً في إطار يذكرنا بشعراء الزهد في العصر العباسي، خاصة شعر أبي العتاهية، في قصيدته "قالت لي الريح" يقول:
لا شيء تحميه البيوت
الكل: من يحيا يموت
المد يتبعه انحسار والبريق له خفوت
الحال ظل، يستحيل له دوام أو ثبوت
في آخر اللحن المغرد سكتة.. قبر صموت
الرزق في بحر تصارع فيه ملاح وحوت
وكلاهما في البحر مبتلع وللأمواج قوت
والرؤية الإسلامية في شعر عصام الغزالي تستوجب دائماً الاستعانة بالحق سبحانه وتعالى، والتوبة والرجوع إليه، وما أكثر القصائد التي يبتهل فيها الشاعر إلى البارئ سبحانه أن يعينه ويلطف به، وأن يحميه من الفتنة، وأن يساعده على العفة، وأن يتمم له ومن معه النور:
غريبان طوبى لنا يا أبي
وفي عالم الظفر والمخلب
تعبنا وجئنا نريح الخطى
ونستاف عطراً بأرض النبي
فيا رب أتمم لنا نورنا
بأيماننا ساطع الكوكب..
وفي قصيدته "في نور التوبة" يقف أمام ملك الملوك، ويهرول ملبياً ويقول:
ملك الملوك أتيته ومهرولاً لبيته
من سار في طلب الهدى فالله هذا بيته
ألقٌ توضأ بالجلال من المهابة سمته
إنا يبشرنا كتابك، والكتاب تلوته
ودنوت للحجر الذي لولاك ما قبلته
وغمرت صدري من تدفق زمزم وعمرته
فاقبله سعياً في سبيلك دون ذنبي سقته
وانفحه نوراً ملء قبر موحد.. لك موته
واجعله عوناً للضعيف على صراطك فوته
ولا يعني ذلك أن الشاعر يعتزل الناس أو المجتمع، فزهده والتزامه باب الله، لا يمنعانه أن يغوص في أعماق الواقع غضباً وسخطاً وتمرداً وثورة، ولعل مجموعته "لو نقرأ أحداق الناس" تعطينا دليلاً على هذا الغوص، فقد كانت قصائد المجموعة قبل حرب رمضان 1393ه، تضج بالرفض للهزيمة العسكرية في جبهات القتال، والهزيمة الداخلية في الوطن، فضلاً عن هجاء المهزومين وتعرية سلبيتهم، وفضح تخاذلهم، ولنقرأ على سبيل المثال قصيدته: "برقية إلى ربان سفينة تغرق" التي كتبها ضمن منشورات اتحاد طلاب هندسة القاهرة عام 1972م يقول فيها:
زميلك وسَّع شرخ القنوط
و"مات" وعقّد كل الخيوط
وخلَّى الحمولة وشك السقوط!
إذا كان يمكن فتح الخطوط
توجّه سريعاً لأدنى الشطوط
تماسك.. تحرك قبيل الهبوط
أخاف عليك من "الأخطبوط"
وبالطبع، فإن الشاعر يعيش مثل جيله، غربة زمانية حادة، قسوتها تفوق قسوة الغربة المكانية، ويزيدها قسوة غربة الشعر أيضاً في "زمان غريب" فالشاعر يمزج بينه وبين الشعر حتى يصيرا كياناً واحداً:
أنا الشعر، أرخوا عليَّ الستارا
فإن الزمان الجميل استدارا
غريب أنا، في زمان غريب
كطفل رأى وجهه المستعارا
فبيني وبين المرايا قناع
وبيني وبين العيون الحيارى
فهذا زمان "الجناة الضحايا"
وهذا زمان "البغايا العذارى"!!
ولعل في النماذج السابقة، ما يكفي لبيان رؤية الشاعر وتصوره للعالم والكون من حوله، حيث يقدم لنا الشاعر القابض على الجمر الذي يدفع ثمن قبضة حريقاً وألماً، ولكنه لا يتراجع، في الوقت الذي نجد فيه من ينكرون شيئاً اسمه الوطن أو القيم، تفتح لهم أبواب النشر والمؤتمرات الخارجية والداخلية، ويحظون أيضاً بالدعاية الإعلامية!.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــ