من أفضل الصدقة.. صدقة في رمضان
خالد سعد النجار
الصدقة على وجهها إنما يقصد بها ابتغاء مرضاة اللّه، والشياطين بصدد منع الإنسان من نيل هذه الدرجة العظمى، فلا يزالون يأبون في صده عن ذلك والنفس لهم على الإنسان ظهيرة، لأن المال شقيق الروح، فإذا بذله في سبيل اللّه فإنما يكون برغمهم جميعًا، ولهذا كان ذلك أقوى دليلًا على استقامته وصدق نيته ونصوح طويته..
الصدقة في شهر رمضان شأنها أعظم وآكد، ولها مزية على غيرها، وذلك لشرف الزمان ومضاعفة أجر العامل فيه، ولأن فيها إعانة للصائمين المحتاجين على طاعاتهم، ولذلك استحق المعين لهم مثل أجرهم، فمن فطر صائمًا كان له مثل أجره، ولأن الله عز وجل يجود على عباده في هذا الشهر بالرحمة والمغفرة، فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل، والجزاء من جنس العمل..
والصوم لا بد أن يقع فيه خلل أو نقص، والصدقة تجبر النقص والخلل، ولهذا أوجب الله في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، ولأن هناك علاقة خاصة بين الصيام والصدقة فالجمع بينهما من موجبات الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة غرفًا، يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها؛ أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» (حسنه الألباني في صحيح الجامع:2123).
كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان..
ولقد كان إمام الأئمة صلوات ربي وسلامه عليه أولَ السابقين إلى أبواب الجود والبر والإحسان، بمعناها الشامل الذي لا يقتصر على بذل المال فقط، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة» (صحيح البخاري:3554)، فهديه أكمل الهدي وأزكاه في كل شيء..
يقول ابن القيم رحمه الله واصفًا هديه في الصدقة والإحسان، وواصفًا جوده وكرمه عليه الصلاة والسلام: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمَ الناس صدقة بما ملكت يده، وكان لا يستكثر شيئًا أعطاه ولا يستقله، وكان عطاؤه عطاء من لا يخشى الفقر، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظمَ من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه تارة بطعامه وتارة بلباسه، وكان ينوع في أصناف عطائه فتارة بالهبة وتارة بالصدقة وتارة بالهدية، وتارة بشراء الشيء ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعًا، وكان يأمر بالصدقة ويحض عليها ويدعو إليها بفعله وقوله، فإذا رآه البخيل والشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء.."
إلى أن قال رحمه الله: "إذا فهمت ما تقدم من أخلاقه فينبغي على الأمة التأسي والاقتداء به في السخاء والكرم والجود، والإكثارُ من ذلك في شهر رمضان لحاجة الناس فيه إلى البر والإحسان ولشرف الزمان ومضاعفة أجر العامل فيه".
الصدقة في القرآن:
والصدقة في القرآن جاء ذكرها بما يدل على عظيم قدرها، قال تعالى:{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263]، وقال تعالى: {إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:271]، وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261]، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:18]، وقال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280]، وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276].
الصدقة من أعظم أسباب فكاك النفس من قيد الشيطان..
فالصدقة من أعظم أسباب فكاك النفس من قيد الشيطان وإخراجها من سلطانه، وهي من أعظم ما يصد عنه الشيطان والعياذ بالله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما يخرج رجل شيئًا من الصدقة حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطانًا» (صححه الألباني في صحيح الجامع:5814، ثم ضعفه في السلسلة الضعيفة:6823).
وذلك لأن الصدقة على وجهها إنما يقصد بها ابتغاء مرضاة اللّه، والشياطين بصدد منع الإنسان من نيل هذه الدرجة العظمى، فلا يزالون يأبون في صده عن ذلك والنفس لهم على الإنسان ظهيرة، لأن المال شقيق الروح، فإذا بذله في سبيل اللّه فإنما يكون برغمهم جميعًا، ولهذا كان ذلك أقوى دليلًا على استقامته وصدق نيته ونصوح طويته، والظاهر أن ذكر السبعين للتكثير لا للتحديد كنظائره.
الصدقة من أعظم أسباب التداوي..
والصدقة من أعظم أسباب التداوي من مختلف الأسقام، ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «داووا مرضاكم بالصدقة» والمراد: من نحو إطعام الجائع، واصطناع المعروف لذي القلب الملهوف، وجبر القلوب المنكسرة كالمرضى من الغرباء والفقراء، والأرمل والمساكين الذين لا يؤبه بهم..
وكان ذوو الفهم عن اللّه تعالى إذا كان لهم حاجة يريدون سرعة حصولها -كشفاء مريض- يأمرون باصطناع طعام حسن بلحم كبش كامل ثم يدعون له ذوي القلوب المنكسرة، قاصدين فداء رأس برأس، وكان بعضهم يرى أن يخرج من أعز ما يملكه، فإذا مرض له من يعز عليه تصدق بأعز ما يملكه من نحو جارية أو عبد أو فرس، يتصدق بثمنه على الفقراء من أهل العفاف.
قال الحليمي: "فإن قيل: أليس اللّه قدر الأعمال والآجال والصحة والسقم، فما فائدة التداوي بالصدقة أو غيرها؟ قلنا: يجوز أن يكون عند اللّه في بعض المرضى أنه إن تداوى بدواء سلم، وإن أهمل أمره أفسد أمره المرض فهلك".
وقال ابن القيم رحمه الله: "وللصدقة تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء، ولو كانت من فاجر، أو ظالم، بل من كافر، وهذا أمر معلوم عند الناس، وأهل الأرض مُقِرُّون بذلك"، ثم الصدقة سهلة ميسورة، والكل يمكنه التصدق مهما كان حاله، فالتصدق نوعان:
الأول: صدقة الاحتساب: ويدل عليها الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة، وما أطعمت نفسك فهو لك صدقة».
والثاني: صدقة البذل: ويدل عليها ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» (صحيح ابن حبان:4243)، والمعنى: أي ما بقيت لك بعد إخراجها كفاية لك ولعيالك واستغناء، كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة من الآية:219].
عظم الصدقة:
ومما يعظم به أجر الصدقة قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان» (صحيح البخاري:2748).
- وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة جهد المقل، وابدأ بمن تعول» (صحيح ابن حبان:3346).
- وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح» (صحيح الترغيب:894)، والكاشح: "العَدُوُّ الذي يُضْمِر عَداوَته ويَطْوي"، يعني: أفضل الصدقة على ذي الرحم المضمر العداوة في باطنه، فالصدقة عليه أفضل منها على ذي الرحم الغير كاشح، لما فيه من قهر النفس للإذعان لمعاديها، وعلى ذي الرحم المصافي أفضل أجرًا منها على الأجنبي لأنه أولى الناس بالمعروف.
- وقال صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة، وصلة الرحم» (صحيح ابن حبان:3344)، فينبغي أن يحرص المريد للخير في أن يجعل من استقباله لرمضان نقطة انطلاق إلى رحابة البذل، خروجًا من قيد الشح والبخل، وأن يذكر قول الله تعالى: {ها أنتم هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]
فلعل ذلك يكون سببًا في الانتصار على هوى النفس الأمارة بالسوء وإخراجها من ظلماتها، وذلك مع ورود أنوار رمضان فيكون نور على نور، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة، وأبواب الصدقة في رمضان لها صور كثيرة منها:
أـ إطعام الطعام:
قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا . إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا . فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا . وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان:8-12]، وقد كان السلف الصالح يحرصون على إطعام الطعام، ويقدمونه على كثير من العبادات، سواء كان ذلك بإشباع جائع أو إطعام أخ صالح، فلا يشترط في المطعم الفقر.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيُّما مؤمنٍ أطعم مؤمنًا على جوعٍ أطعمه اللهُ يومَ القيامةِ من ثمارِ الجنَّةِ وأيُّما مؤمنٍ سقَى مؤمنًا على ظمأٍ سقاه اللهُ يومَ القيامةِ من الرَّحيقِ المختومِ» (قال المنذري في الترغيب والترهيب: 92/2 إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب:555)، وقال بعض السلف: "لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعامًا يشتهونه، أحب إلي من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل".
وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره وهو صائم، منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وداود الطائي، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل، وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، ومن السلف من كان يطعم إخوانه وهو صائم، ويجلس يخدمهم ويروحهم، منهم الحسن وابن مبارك، وقال أبو السوار العدوي: "كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد، ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس وأكل الناس معه".
وعبادة إطعام الطعام ينشأ عنها عبادات كثيرة منها: التودد والتحبب إلى إخوانك الذين أطعمتهم، فيكون ذلك سببًا في دخول الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا» (حسنه الألباني في صحيح الترمذي:2510)، كما ينشأ عنها مجالسة الصالحين، واحتساب الأجر في معونتهم على الطاعات التي تقووا عليها بطعامك.
ب- تفطير الصائمين:
قال صلى الله عليه وسلم: «من فطّر صائمًا كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا» (صحيح الجامع:6415)، قال ابن رجب: "وذكر أبو بكر بن أبي مريم عن أشياخه أنهم كانوا يقولون: إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة، فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله، وتسبيحه فيه أفضل من ألف تسبيحه في غيره".
طريق الاسلام