في المواطن".هوبـــــــــز
" صحيح أن كلّ فرد يتمتّع خارج المجتمع المدني بحرية تامة غير منقوصة، ولكنّها حرّية غير مثمرة، لأنّها، لمّا كانت تعطينا امتياز فعل كلّ يطيب لنا فعله، فإنّها كذلك تترك للآخرين القدرة يحمّلونا كلّ ما يعِـنّ لهم.أما في ظل حكومة دولة محكمة الأسس، فإن كل فرد لا يحتفظ من حريته إلا بالقدر الذي يكفيه ليعيش عيشة راضية، و في ودعة تامة ، كما أن الآخرين لا يجردون من حريتهم إلا بقدر ما يُــخشى عل غيرهم منها. و إن كل فرد، خارج المجتمع، ليُــفرط في ادّعاء الحق على كل الأشياء إفراطا يمنعه من الإفادة منها، فلا يحوز منها شيئا. و أما في ظل الجمهورية،فإن كل واحد من الناس يتمتع في اطمئنان بحقه الخاص به.(...) و إذا لم نختلط بالناس لم يكن لنا من قوة نحتمي بها إلا قدراتنا الخاصة، و لكن متى كنا في مدينة من المدن حظينا بمساعدة كل مواطنينا.(...) و أخيرا متى كنا خارج المجتمع المدني، سادت الأهواء، و استدامت الحرب، وتعذر التغلب على الفقر، و ظل الخوف يلازمنا ملازمة، و طاردتنا ويلات العزلة و كبّــــــلنا الشّــــقاء، و فقدنا- بما يسود من الهمجية و الجهل و الوحشية- كل مباهج الحياة. و أمــّا في ظل نظام الحكومة، فإن العقل يبسط سلطانه، و يعود السلام إلى العالم، و يــُستتب الأمن العمومي، و تتزايد الثروات، فنتذوّق حلاوة الحوار مع الغير، و نشهد انبعاث الفنون و ازدهار العلوم، و تــُصطبغ أفعالنا باللياقة فلا نعيش بعد ذلك في جهل بقواعد الصداقة."
توماس هوبـــــز ‹ في المُـــــــــــواطن ›
***
الإرادة العامة
أحسب أن البشر قد بلغوا حدا دحرت فيه العراقيل التي كانت تناوئ بقاءهم في حالة الطبيعة بصلابتها القوى التي يمكن أن يستخدمها كل فرد منهم قصد البقاء في حالة الطبيعة تلك ، و حينئذ، فلا سبيل إلى دوام هذه الحالة الأولية، وإن لم يغير الجنس البشري طريقة حياته أصابه الهلاك .
ولكن ، لما كان البشر عاجزين عن خلق قوى جديدة لأنفسهم ، ولم يكن لهم سوى توحيد القوى الموجودة وتوجيهها، فإنه لم يعد لهم من سبيل لحفظ حياتهم سوى أن ينشئوا - بالتجمع و الاندماج - جملة من القوى بإمكانها التغلب على ما يعرض من عراقيل ، وأن يستخدموها في انسجام ووفاق صادرين في ذلك عن باعث واحد .
إن مجموع القوى هذه لا يمكن أن تبرز إلى الوجود إلا بتآزر مجموعة من الناس ، غير أن قوة كل إنسان وحريته هما الأدوات الأولية اللازمة لحياته وضمان بقائه ، فكيف له أن يراهن بهما دون أن يدخل على أمره ضيما وأن يفرط في ما ينبغي له إزاء نفسه من اهتمام وعناية ؟
وإذا اعتبرنا هذه الصعوبة في مستوى المحور الذي تدور حوله أمكننا التعبير عنها على النحو التالي : " الاهتداء إلى شكل من أشكال الاجتماع توظف فيه قوة المجموعة بأسرها لحماية كل عضو من الأعضاء و الذود عن أملاكه ، وبهذا الضرب من الاجتماع يستطيع كل امرئ أن ينضم إلى المجموعة كلها، ولكنه يظل في الوقت ذاته حرّا كما كان في السابق ، فلا يخضع إلا لسلطان نفسه ، هذه هي المعضلة الأساسية التي يوجد العقد الاجتماعي حلا لها ".
إن بنود هذا العقد قد حددتها طبيعة التعاقد، إلى حد صارت فيه أبسط التعديلات مؤدية إلى إبطال البنود وجعلها عبثا لا طائل من ورائه ، بحيث أن هذه البنود واحدة أينما كانت ، وهي مقبولة ومسلم بها ضمنيا على الرغم من أنه ربما لم تعلن قط إعلانا بينا صريحا. وتبقى هذه البنود مقبولة ومسلما بها حتى إذا نقض العقد الاجتماعي ارتد كل فرد إلى حقوقه الأولى، واسترد حريته الطبيعية، وعدل - في الوقت نفسه - عن تلك الحرية التعاقدية فتخلى عنها .
وترد هذه البنود كلها - إن فهمت فهما صحيحا- إلى بند واحد هو أن يتنازل كل شريك للمجموعة بأسرها عن كل ماله من حقوق ويمنح نفسه لها بالكلية – و لما كان كل واحد - بادئ ذي بدء- قد منح نفسه للمجموعة منحا كاملا، ولما كانت الشروط متساوية بين جميع الناس فما من أحد يغنم شيئا من جعل تلك الشروط مجحفة بالنّسبة إلى الآخرين.
أضف إلى ذلك أنه لما كان تنازل الفرد بلا قيد ولا شرط فقد بلغ الاتحاد من الكمال ما لا غاية بعده ، فلم يبق -عند ذلك - لأيّ شريك مطلب ، لأنه لو بقيت بعض الحقوق للأفراد، ولم يوجد حكم يرضاه جميع الناس للفصل بين طالبي تلك الحقوق وسائر الناس ، لسارع كل فرد مطالبا لنفسه بالقضاء بين الناس لتعوَده على الاحتكام إلى نفسه في بعض أموره ، فتستمر حالة الطبيعة، ويؤول الاجتماع حتما إلى الاستبداد أو اللاجدوى. وأخيرا إذا منح كل واحد نفسه للمجموعة كلها، فانه لم يمنح نفسه لأحد، ولما لم يكن ثمة شريك لا يمنحنا نفس الحقوق التي وهبناه إياه غنمنا ما يساوي غرمنا كله مزيدا من القوة للحفاظ على ما هو حاصل لدينا.
وهكذا، فان العقد الاجتماعي ، إذا خلص مما ينافي ماهيته ألفيناه مختصرا في العبارات التالية : أن يضع كل واحد منّا شخصه وكل ماله من قوَة تحت تصرف المجموعة وأن يخضع لمشيئة الإرادة العامة، وأن يلتحم بكل عضو من أعضاء المجموعة باعتباره جزءا لا يتجزأ منها.
روسّو " في العقد الاجتماعي"
***
الحق والقوة
ليس الأقوى بقوي دائما قوَة تجعله يسود أبدا إذا لم يحوّل قوته حقّا والطاعة واجبا. ومن هاهنا كان حق الأقوى وهو حق ينظر إليه ظاهريا بضرب من السخرية وإن كان في الواقع قد غدا مبدأ : ولكن لم لا تشرح لنا دائما هذه الكلمة ؟
إن القوة لهي قدرة مادية. فلست أرى أي أخلاقية قد تنتج عن نتائجها. فالخضوع للقوة هو فعل ( من أفعال ) الضرورة لا الإرادة أو هو في الأكثر فعل ( من أفعال ) الحصافة. فبأي معنى يكون هذا واجبا ؟
لنسلم لحظة بهذا الحق المزعوم . فأقول إنه لا ينتج عنه إلا هراء لا تفسير له . فما أن تغدو القوة هي التي توجد الحق ، وتتغير النتيجة بتغير السبب ، حتى ترث كل قوة تتغلب على الأولى حقها. وما إن يقدر المرء أن يعصي دون عقاب حتى يقدر على ذلك بصورة شرعية، ومادام الأقوى على صواب دائما، فليس للمرء إلا أن يسعى ليكون الأقوى .
( أما ) والحالة هذه فما الحق الذي يذوي حين تبطل القوة ؟ فإذا كان لنا أن نطيع بدافع القوة فلسنا نحتاج إلى أن نطيع بدافع الواجب ، وإذا لم نحمل بالقوة على الطاعة فليس لنا إليها من تكليف . هكذا إذن نرى أن كلمة الحق هذه لا تضيف إلى القوة شيئا ؛ إنها لا تعني هاهنا شيئا. أطيعوا ذوي السلطان . فان يعن هذا : اخضعوا للقوة - وهذا الأمر حسن ولكنه غير مجد- فإني أجيب قائلا إنه لن ينتهك أبدا. فكل قدرة إنما هي من الله ، وأنا أسلم بذلك ، ولكن كل داء فمنه يكون أيضا. أفيعني ذلك أنه يحرم دعوة الطبيب ؟ وإن طلع علي بعض الصعاليك من ناحية في غابة فانه لا ينبغي لي أن أعطيه كيس نقودي فقط ، ولكن حين أقدر على إخفاء ( الكيس ) أأكون بصراحة مجبرا على إعطائه إياه ؟ إذ - في الأخير - أن المسدّس الذي يشهره هو كذلك قدرة. لنتفق إذن على أن القوة لا توجد الحق ، وعلى أن ليس للمرء إلا أن يطيع ذوي السلطان الشرعي .
ج ج روسو " في العقدالاجتماعي "
***
الدولة والتناقضات الاجتماعية
ليست الدولة سلطة مفروضة على المجتمع من خارجه، كما أنها ليست " حقيقة الفكرة الأخلاقية " ولا " صورة العقل وحقيقته " كما زعم هيغل، وإنما هي، بالأحرى، نتاج المجتمع في طور معين من أطوار نموه. إنها شهادة على أن هذا المجتمع قد تورط مع نفسه في تناقض يتعذر حله، لأنه انقسم شيعا متنافرة عجز عن استبعادها. وحتى لا يفني التنازع الطبقات الاجتماعية ذات المصالح الاقتصادية المتعارضة - وفي ذلك فناء لها وللمجتمع ذاته - تحتمت الحاجة إلى وجود سلطة تكون - في الظاهر- فوق المجتمع، ويكون واجبها أن تلطف الصراع وتحصر مجاله في الحدود التي تحفظ " النظام ". وهذه السلطة، التي هي وليدة المجتمع، ولكنها تتخذ مرتبة أسمى من مرتبته وتغدو -تدريجيا- غريبة عنه ، هي الدولة . . .
ولما كان ظهور الدولة ناشئا عن الحاجة إلى كبح التناقضات الطبقية، وكان هذا الظهور - قي الوقت ذاته - في خضم صراع الطبقات، فان الدولة - عادة- هي دولة أقوى الطبقات، أي دولة الطبقة المهيمنة اقتصاديا وهي الطبقة التي تغدو - بفضل الدولة- طبقة مسيطرة سياسيا أيضا، فتتوفر لها - على هذا النحو- وسائل جديدة تمكنها من قهر الطبقة المضطهدة واستغلالها... وهكذا فان الدولة لم توجد منذ البدء، فقد وجدت مجتمعات تدبرت أمرها بمعزل عن الدولة فلم تكوّن أي فكرة عنها ولا عن سلطة الدولة. ولكن، في طور معين من أطوار النمو الاقتصادي المرتبط -ضرورة- بانقسام المجتمع إلى طبقات، صارت الدولة ضرورة حتمها هذا الانقسام ذاته.
فريدريك انغلز" أصل العائلة والملكيّة الخاصة والدولة "
***
السلطة و الحرية.
اسبينوزا
" أن يكون المرء أسير لذته فلا يستطيع أن يرى أو أن يفعل حقا ما هو مفيد له، فتلك أبشع العبودية، و الحرية لا تكون من اختار بحمض إرادته أن يعيش مهتديا بالعقل وحده، أما الفعل الذي نقوم به تلبية لأمر، أعني الطاعة،فلئن كان يجرد من الحرية بوجه من الوجوه،فإنه لا يحول صاحبه مباشرة إلى عبد، بل الدافع المحدد للفعل هو الذي يحوله إلى ذلك. فإذا كانت غاية الفعل نفع الأمر به لا نفع قائم به، كان هذا القائم به عبدا لا خير فيه لنفسه. وعلى العكس من ذلك فإن الذي يطيع صاحب السيادة طاعة كلية، في ظل دولة أو نظام يجعلان القانون الأسمى خلاص الشعب بأسره لا مصلحة الأمر وحده، لا يجب أن يعتبر عبدا لا خير فيه لنفسه بل هو مرؤوس. و هكذا تكون هذه الدولة أكثر الدول حرية لما اعتمدته قوانينها من العقل القويم لن كل فرد في هذه الدولة يستطيع متى أراد أن يكون حرا، أي أن يعيش بحمض إرادته مهتديا بالعقل. كذلك أيضا ليس الأطفال عبيداــ بالرغم من كونهم ملزمين بطاعة أوامر آبائهم ــ لأن أوامر الآباء تراعي مصلحة الأطفال أيما مراعاة."
سبينوزا: " رسالة في اللاهوت و السياسة"
وعلى ذلك فإن مفهوم العقد الاجتماعي قد أصبح اليوم شيئا يصعب القول به, إذ أنه أمر مقطوع الصلة بالواقع فالملاحظ لا يصادفه في طريقه. و ليست القضية أنه ما من مجتمع كان له مثل هذا الأصل بل إنه ما من مجتمع تكشف بنيته عن أي أثر من آثار التنظيم التعاقدي. وعلى ذلك فليست هذه الفرضية أمرا مقررا في التاريخ. و لهذا وجب على أولئك الذين أرادوا تجديد هذه النظرية و جعلها موثوقة بعض الشيء, أن يسموا باسم العقد, قبول الفرد للمجتمع عندما يصبح راشدا بحكم مثابرته على الحياة في إطاره. و لكن علينا عندئذ أن نطلق صفة "التعاقدي " على كل فعل يصدر عن الإنسان بلا إكراه. لا يكون هنالك من جماعة, لا في الحاضر و لا في الماضي, إلا وهي تعاقدية أو كانت كذلك. إذ ما منها يمكن أن يستمر في البقاء بحكم الضغط وحده... والحقيقة أن الحياة الاجتماعية حينما تكون طبيعية, تكون عفوية. و إذ هي كانت غير طبيعية, لم تستطع أن تدوم. إن الفرد يستسلم بصورة عفوية, بل إنه ليس من الصحيح الكلام عن الاستسلام, حيث لا يوجد شيء يتنازل عنه فإذا أعطينا للكلمة إذا, هذا المدلول الواسع, والمفرط بعض الشيء فلن يبق هنالك مجال للتمييز بين مختلف النماذج الاجتماعية. و إذا نحن فهمنا بذلك تلك العلاقة الحقوقية المحددة التي يدل عليها هذا التعبير, ففي وسعنا التأكيد بأنه ما من علاقة من هذا النوع وجدت يوما بين الناس والمجتمع.
إميل دوركهايم : في تقسيم العمل الاجتماعي
***
إن الانتقال من الوضع الطبيعي إلى الوضع المدني ينشأ في الإنسان تحولا ملحوظا, و ذلك بجعله يستعيض عن الغريزة بالعدالة في سلوكه و يجعل أفعاله تكتسي الطابع الأخلاقي الذي كان ينقصها سابقا. حينئذ فقط أي عندما يحل صوت الواجب محل الدوافع الفيزيائية, والحق محل الشهوة, يجد هذا الإنسان ذاته مجبرا على أن يسلك وفقا لمبادئ أخري, وعلى أن يستشير عقله قبل أن ينصت إلى ميولاته. و مهما كانت الإيجابيات التي سيحرم منها و التي منحته إياها الطبيعة فإنه في المقابل يغنم إيجابيات أكبر...
فلنرجع هذه الموازنات إلى عبارات تسهل مقارنتها: فما يخسره المرء عن طريق العقد الاجتماعي هو حريته الطبيعية و حقا لا محدودا في كل ما يسعى أو يستطيع تحصيله, أما ما يغنمه فهو الحرية المدنية و ملكية كل ما لديه. و لكي لا يخطئ في هذه الموازنات فإنه من الواجب أن نميز بين الحرية الطبيعية التي لا حدود لها إلا قوى الفرد, والحرية المدنية التي تحدها الإرادة العامة, و بين الحوز الذي هو فعل القوة والملكية التي لا تتأسس إلا بصفة وضعية. فضلا عن هذا كله نستطيع أن نضيف إلي مكتسبات الوضع المدني الحرية الأخلاقية باعتبار أنها هي وحدها فقط التي تجعل الإنسان بحق سيد نفسه لأن دافع الشهوة وحدها عبودية و طاعة القانون حرية.
روســـــــو: في العقد الاجتماعي
***
الإنسان حيوان وهو من اللحظة التي يعيش فيها بين أفراد آخرين من بني جنسه يحتاج إلي سيد لأنه بكل تأكيد يسيء استعمال حريته إزاء نظرائه و على الرغم من أنه باعتباره كائنا عاقلا يتوق إلي قانون يحد من حرية الجميع, فإن ميله الحيواني إلي الأنانية يحثه علي أن يحتفظ لنفسه قدر الإمكان بمنزلة استثنائية. لابد إذا له من سيد يواجه بعنف إرادته الخاصة و يكرهه على الخضوع لإرادة صحيحة صحة كلية بفضلها يتسنى لكل فرد أن يكون حرا. و لكن أين سيعثر علي هذا السيد ؟ قطعا في النوع الإنساني . إلا أن هذا السيد هو بدوره, مثله تماما حيوان ذو حاجة إلى سيد عادل بذاته لإقامة العدالة: سواء اختار لهذا الغرض شخصا واحدا أو اتجه إلى نخبة من الأشخاص مختارة من صلب المجتمع لأن كل واحد منهم سيسيء دائما استعمال الحرية إن لم يكن له شخص آخر يعلو عليه ليفرض عليه إزاء ذاته سلطة القوانين.
كانط: فلســـــــــــفة التـــــــــــاريخ
***
إن الوقائع تشير يوما إثر يوم إلى أن وظيفة الدولة إنما هي سلبية و مقيدة عوضا عن كونها إيجابية و فاعلة و مكرسة من أجل الحماية، حماية الحياة والحريات والممتلكات. و لكن ليس هناك سلطة في القانون تستطيع أن تغير ماهية الفرد كأن تجعل المفكر صناعيا والمسرف متحفظا و السكران صاحيا. فالفرد يستطيع أن يتخذ أيا من الحالات التي يشاؤها بممارسة حقوقه في العمل و التصرف الشخصي بحيث لا يتعارض مع مصلحة المجموعة. و تدل جميع التجارب على أن قيمة و مناعة الدولة لا تعتمد على ماهية مؤسساتها ومتانة نظمها وقوانينها فحسب, وإنما على ماهية و متانة الصفات الشخصية لأفرادها أيضا. فالأمة ليست إلا محصلة لسلوك الأفراد. والمدينة نفسها ليست إلا نتيجة للتحسن الفردي... ومن الطبيعي أن مجموع ميزات الأمة وأخلاقها ينعكس تأثيره الحسن في قوانين الدولة و نظمها. فالطيبون من الناس يولى عليهم حكم طيب و بالعكس فالأشرار يولى عليهم حكم قاس يتلاءم مع طبيعتهم.
جيــــــــــمس مـــــيل: بحث في الحرية
***
بقدر ما تتخذ التدابير لمصادرة حرية التعبير لدى الناس, يزداد إصرارهم على الصمود وهذا الموقف لا ينطبق على النهمين منهم والمتزلفين وفاقدي الوازع الأخلاقي المنيع الذين جعلوا المال وإشباع البطن همهم الأكبر بل على أولئك الذين تمنحهم تربيتهم السليمة و عفة أخلاقهم و فضيلتهم مقدارا من الحرية.
إن الناس قد جبلوا على طبيعة تجعلهم لا يطيقون تحمل شيء أسوء من تحملهم أن تؤخذ الآراء التي يعتقدون في صحتها, إنها هدامة وهو ما ينتهي بهم إلي كره القوانين و التجرؤ على تحدي سلطة القضاة واعتبار حث الناس على التمرد من أجل قضيتهم (حرية التعبير ) عملا نبيلا, لا عارا, فيلجؤون بالتالي إلى أي شكل من أشكال العنف لتحقيق غرضهم المنشود. و بما أن الطبيعة البشرية جبلت علي هذا النحو فمن البديهي أن تهدد القوانين المانعة لحرية الرأي, لا المجرمين بل أولئك المتمسكين بسلوك مستقل وأن تكون قد سنت لا لمراقبة الأشرار بل لاستفزاز أشرف الناس. و نتيجة لذلك فإنه لا يمكن المحافظة عليها دون أن يشكل ذلك خطرا كبيرا علي الدولة.
سبينوزا ( رسالة في اللاهوت و السياسة )
***
إن السلطة ليست شيئا يتحصل عليه و ينتزع أو يقتسم, شيئا نحتكره أو ندعه يفلت من أيدينا, إنها تمارس انطلاقا من نقاط لا حصر لها و في خضم علاقات متحركة ولا متكافئة. و لا تقوم علاقات السلطة خارج أنواع أخرى من العلاقات ( العلاقات الاقتصادية والمعرفية والعلاقات الجنسية ) وإنما هي محايثة لها إنها النتائج المباشرة التي تتمخض عن التقسيمات واللاتكافؤات والاختلالات التي تتم في تلك العلاقات وهي الشروط الداخلية لتلك التمايزات. لا تقوم علاقات السلطة في بنية عليا ولا يقتصر دورها علي التهديد والحظر بل إن لها حيث تعمل عملها دورا خلاقا.
إن السلطة تأتي من الأسفل و هذا يعني أن ليس هناك في أصل علاقات السلطة و كطابع عام تعارض ثنائي شامل بين المسيطرين ومن يقعون تحت السيطرة, بحيث ينعكس صدى هذا التعارض من أعلى إلى أسفل, وعلى جماعات يزداد ضيقها إلى أن يبلغ أعماق الجسم الاجتماعي. ينبغي أن نفترض بالأحرى أن علاقات القوة المتعددة التي تتكون و تعمل في أجهزة الإنتاج والأسر والجماعات الضيقة والمؤسسات تكون حاملا لانقسامات للعمود الفقري الذي يخترق المنازعات المحلية و يربط بينها, و كرد فعل فهي تقوم بطبيعة الحال بإعادة توزيع تلك المنازعات و تنظيمها وضمها و توحيدها والربط بينها وجمعها وما أشكال القهر الكبرى إلا نتائج الهيمنة التي تدعمها شدة كل تلك المواجهات والمنازعات.
ميشال فـــــوكـــــــــــــو جينيالوجيا المعرفة ص 79 / 80
***
سلطة الدولة
في الواقع إن الدولة هي التي تحتكر مبدئيا السلطة المادية بممارسة الضغط وهي التي تقاضى وتعاقب تحظر القتل و تفرض النظام, نظامها هي أكثر منه النظام الذي يريده مجموع المواطنين. إن لعبة السلطة بالذات تنطوي على عنف تظهره لعبة الجماعات الضاغطة. و لذا يعود للدولة أيضا أن تقرر الحرب شريطة ألا تكون لعبة بأيدي قوى تسيطر عليها. تلك ليست إلا أدني مظاهر ازدواجية الدولة فهي تضمن النظام و تكرس الحرب تدين قتل المواطنين و تفرض قتل العدو تدعي معرفة الخير و الشر وحق تصنيف بين صديق وعدو توحد بسهولة بين قواتها التأديبية وقوى الكون, بين نظام المجتمع القائم و قوى العالم أليست هذه الازدواجية الأخيرة هي التي تبرر التضامن بين السياسي و القدسي ؟ فكما أن القدسي يمارس عنفا على التصور الخيالي ويضمن الامتثال لنظام ما كذلك يظهر ما هو سياسي بمظهر القدرة القدسية بالذات, حتى إن المساس بسلطة الدولة يميل إلي أن يصبح كفرا و أن هذا الميل المتأصل عميقا في نفس الإنسان يترسخ كثيرا عندما تريد السلطة التي تحتكر المقدسات أي السلطة الدينية أن تجعل من السلطة العامة مدافعة عن قيمها الخاصة. و كما أن المجتمع لا يتردد في إخفاء رقابته و سيطرته تحت ستار حريات جذابة ومزعومة كذلك ينكشف العنف الفاضح لحرب تشن على الفقراء باسم سلام الفقراء.
إن هذه السيطرة لا تمارس في نطاق الحياة الاجتماعية والدينية أو السياسية فحسب ولا في إطار الأمة وحده. فثمة سيطرات أخرى تمارس. ما من شك أنه قد يتوجب علينا التدقيق عن كثب في هذا الوضع الاجتماعي الصارخ بالعنف الذي هو نظام الرق والذي هو أبعد من أن يكون قد زال في أيامنا.
فرنسوا لوجاندار: المجتمع و العنف
***
القضاء على العنف هو نقطة بدء الفلسفة وهدفها الأخير, فالإنسان يستطيع أن يتميز بأنه حرية إما من أجل العقل وإما من أجل العنف والفلسفة عبارة عن تشييد حديث متماسك هدفه الحكمة الكبرى تلك التي نراها فوق كل حديث أو هي وحدة الحديث مع الموقف الذي يسمح للإنسان أن يعيش حديثه وأن يحقق في إطار الجماعة " رجالا حقيقيين " الذين هم معنى وجوده هو. صحيح أنه لا توجد فلسفة واحدة بل توجد فلسفات كما أنه لا يوجد حديث واحد بل توجد أحاديث لكن في وسعنا أن نضمن أساسا مشتركا لمختلف الأحاديث الخاصة أو بتعبير آخر بدلا من أن تكون الفلسفة نظرية الكائن المتعالي نجدها تعبيرا عن اللوغوس أو الكلمة الإلهية وهي ليست أنطلوجيا بل هي منطق الأحاديث الإنسانية إذ أن الحديث لا يمكن أن يكون خارج العقل المفكر بل هو حركيته.
فالإنسان ليس لغة فحسب بل هو كذلك عمل و فعل. و هنا في هذا المجال تصبح الحكمة أمرا ممكنا ويصبح الطغيان البربري ممكنا أيضا. وهدف الفلسفة هو تحقيق الوحدة القائمة بين الحديث والحياة بين النظرية والفعل الثوري ( البراكسيس ).
بهذا نفهم أن هذه الفلسفة العويصة هي فلسفة الإنسان الموجود في العالم والذي يريد فهم هذا الموقف والسيطرة عليه. والفيلسوف بدون النظام الاجتماعي لا يستطيع أن يتفلسف لأنه سيكون فريسة للعنف. فالسياسة هي التي تضمن التفكير العقلي, بل إنها هي التي تجعل الإنسان معقولا لأنها تنقل إليه بل تفرض عليه أخلاقيات أو معنويات خاصة. إن السياسة وعلم الأخلاق إن كان يرفضان اللقاء وإذا لم يقبل كل منهما بطريقته أن يموت في سبيل لا شيء فهما البحث الحر عن حرية الإنسان بقصد تفهم المعنى. وهما بحثا عن وعي أكثر وضوحا وعن عمل أكثر اتساقا دون أن يصبح الوعي والاتساق كاملين ودون أن يتوقف الإنسان عن الوجود لأنه في آن واحد رغبة وحرية لا ينفصلان ووجود اعتباطي و باحث عن العدالة في الوقت نفسه وهو عنف و عقل, والإنسان يستطيع أن يختار هذا أو ذاك لكنه إذا اختار أحد الطرفين فقط فإنه سيكون قد عمل باختياره هذا ضد إمكان قيام علم إنساني. و للناس مطلق الحرية في أن يفعلوا ذلك. لكنهم إذا كانوا قد اتخذوا قرارا من أجل استمرار العالم وهم في قلب هذا العالم, فعليهم أن يتقبلوا العمل الشاق الذي يقوم عليه الفكر والعقل المسؤولان في نفس الوقت يكونون على ثقة بأنهم معرضون للخطأ في كل خطوة يخطونها.
إلا أن هذه الفلسفة أو اللعبة الجادة تستحق في ذاتها كل تقدير لأنها اللعبة الوحيدة التي تستحق الجهد الذي يبذل فيها في نظر هذا الذي يعرف أنه ليس حيوانا.