المحسنات في اللغة العربية ووظيفتها
يرمي هذا المقال إلى إثبات أن المحسنات اللفظية والمعنوية كالسجع والجناس والطباق والمقابلة والموازنة ليس لها علاقة بالارتفاع والانخفاض في مستوى اللغة – هذا الذي أشار إليه زكي عبد الملك في مقالة له عن لغة يوسف السباعي[1]، بل هي جزء من طبيعة اللغة لدى الإنسان ، وبسبب من الاستمرارية إيقاعًا ومراوحة لفظ ، بدءًا بالعصر الجاهلي وانتهاء باللهجات العامية المتداولة. كما يرمي إلى تباين الاستعمالات المعاصرة لهذه المحسنات، فهي ليست مجرد تلاعب لغوي كما يحلو للبعض أن يسميها ، بل هي تأتي زينة وحلية.
وسأتركز على النثر ، لأن النثر هو أكثر من الشعر بطبيعة الأمر.
السجع
هو الكلام المقفى ، إذ يتألف أواخر الكلام على نسق كما تأتلف القوافي، وأصل الاسم من السجاعة، وهو الاستواء والاستقامة والاشتباه، لأن كل كلمة تشبه صاحبتها. قال ابن جني:
سمي سجعًا لاشتباه أواخره وتناسب فواصله [2]. وقد كان كهنة العرب قبل الإسلام يسجعون، بدليل الحديث الذي نهى فيه الرسول عن سجعهم:
قال رجل للرسول كيف ندي (أي ندفع دية) من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، وثعل دمه يطل، قال صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الكهان؟! [3]. وفي رواية إياكم وسجع الكهان، وفي الحديث كذلك - أنه نهى عن السجع في الدعاء، وأضاف الأزهري : فأما فواصل الكلام المنظوم الذي لا يشاكل المسجع فهو مباح في الخطب والرسائل .[4]
وليس لدينا نماذج كثيرة من سجع الكهان حتى نحكم عليه وعلى سبب العزوف عنه، ويبدو لنا أن تكلف السجع هو الذي حدا بالرسول إلى رفضه، ولكنا مع ذلك نستطيع أن نرى نماذج السجع أو الكلام الذي له فواصل[5] على حد تعبير الرماني والباقلاني. ففي القرآن الكريم:
فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب [6] ؛ قل يا أيها الكافرون* لا أعبد ما تعبدون [7]فهذا الازدواج غير مطّرد، إذ يكون الكلام مرسلاً وغير مرسل. وفي الانتقال والمراوحة جمالية فنية ووقع جديد. وجدير بالذكر أن السجع في القرآن يسمى غالبًا فاصلة .
والسجع في الحديث الشريف –نسبيًا- قليل، لكنه يظهر هنا وهناك. ففي وصية للرسول: افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام [8]. ولا شك هنا أن السجع متعمد، بل إن في بعض الأحاديث تغييرات لغوية أجازها الرسول لنفسه ، فقد ورد على لسانه : ارجعن مأزورات غير مأجورات [9] ، ونحن نجد في اللغة لفظة - موزورات بمعنى آثمات، فأجراها على الإتباع.
وهاك مثالاً آخر:
أعوذ بكلمات الله التامه، من كل شيطان وهامه، ومن كل عين لامّه [10] ، واللامة هي الملمة، لكن التسجيع جعله يستعمل هذه الكلمة.
ومن جهة أخرى فالتوقيعات، وهي الرسائل الموجزة كان أغلبها مسجوعًا:
- ليس عليك بأس، ما لم يكن منك بأس.
- يعطو على الشغب، ولا يحرجوا إلى الطلب [11] ، وقد كثر السجع في مقدمات الكتب الأدبية، حتى كانت المقامات قمة السجع، فهي أصلاً بُنيت عليه في عصور أدبية متأخرة ، ولو على حساب المضمون، حيث بدأ الانبهار اللغوي ، وكان وسيلة للكدية.
وفي عصر المماليك خلعت على كثير من أسماء الكتب الأسماء المسجوعة:
نهاية الأرب في فنون العرب للنويري،
صبح الأعشى في صناعة الإنشا للقلقشندي،
بل انظر إلى الاسم الدقيق لمقّدمة ابن خلدون:
كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.
فمقدمة المقدمة مسجوعة، حتى إذا أخذ ابن خلدون في تناول المواضيع شرع يرسل الكلام مرسلاً - أسوة بالجاحظ وعبد الله بن المقفع وابن قتيبة وغيرهم. أما كتاب ألف ليلة وليلة فلا يعتمد السجع دائمًا بل يراوح وهو ينسق ، فمثلاً:
قال هشام وقد تزايد به الغضب: لقد حضرت في يوم حضر فيه أجلك ، وغاب عنه أملك وانصرم عمرك، فقال والله يا هشام: لئن كان في المدة تأخير، ولم يكن في الأجل تقصير، فما ضر بي كلامك....[12]
وقد استُعمل هذا السجع لجذب انتباه السامعين عند سرد الحكايات، وبرز بصورة خاصة في سير عنترة والزير وأبي ليلى المهلهل وتغريبة بني هلال ورحيلهم إلى بلاد المغرب، وعلينا أن نلاحظ هنا هذه الفقرات القصيرة التي تتلاءم وطبيعة القص والإثارة:
ولما أصبح الصباح ركبوا ابن دخان، وكان اسمه سكران، فنزل إلى الميدان، وطلب مبارزة الفرسان [13].
وفي اللهجة العامية بقي السجع ظاهرًا في الأمثال الشعبية والأغاني وتعديد النساء. فمن الأمثال:
عادت حليمة لعادتها القديمة،
البيت معمور وصاحبته بتدور،
ناس بحنانيها وناس بغنانيها،
الباب اللي يجي منه الريح سده واستريح...
والسجع يكون أحيانًا صوتيًا:
لبس البوصة تصير عروسة،
القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود.
ويظهر السجع في بداية الحكايات وخواتمها:
مكان مكان يا مستمعين الكلام ، حتى توحدوا الله، لا اله إلا الله...
وعاشوا في تبات ونبات ، وخلفوا صبيان وبنات .[14]
ولو عدنا إلى الشعر فالسجع في البيت الواحد يسمى تشطيرًا. وقد ورد كثيرًا في الشعر العربي، ولنذكر مثلاً من امرئ القيس:
سليمِ الشَّظى عبلِ الشّوى شَنِجِ الَّنسا
له حَجَباتٌ مُشْرِفاتٌ على الفالي [15]
مما تقدم نرى أن السجع كان ملازمًا للغة العربية، واستمر حتى عصرنا، غير أننا لا نكاد نرى اليوم مقدمات كتب مسجوعة ، بسبب اعتماد الكتاب على التركيز على المضمون. فإن جاء السجع تلقائيًا ومطبوعًا فهو سائغ، وإلا فما أغنانا عن التحمل والتكلف على غرار تقديم أحدهم لكتابه:
انتشر هذا الديوان ، معتمدًا على الواحد الديان، وممتلئ النفس من الرضا والاطمئنان، لأنه ثمرة جهد جهيد، وصبر مؤمن عنيد، ولقد جاء كما ترى معبرا، عما صار وجرى، وسلكت به الطريق الطويل، على نهج الفراهيدي الخليل، بلا انحراف وتحويل، ولا تمويه ولا تضليل، بل عربي مصري أصيل...
فالسجع لا يحسن إلا إذا كان رصين التركيب خاليًا من التكرار في غير فائدة، يراوح مع المرسل. ولهذا كان جمال القرآن اللغوي الذي راوح بين الفواصل والإرسال ، ومن جهة أخرى نفرنا من أسلوب المقامات ، وخاصة المتكلف منه ، بينما أعجبنا بالأمثال المسجوعة.
فالخطيب إذا استعمل السجع بعض المرات يزيد خطبته سبكًا ورونقًا، بينما إذا استمر على السجع فإنه يتركز على الشكل ويفقد الجاذبية.
فالسجع اليسير استعمل قديمًا وما زال. والعودة إليه لا تدل على ارتفاع في الأسلوب، فهو جزء من اللغة لم ينفصل عنها في أية فترة زمنية ، فالعبرة في قوة السبك وفي التأثير.
الجناس
وهو تشابه اللفظين في النطق في أداء المعنى، فقد ورد على مر العصور في كلامنا فصيحة وغير فصيحة.
فالقرآن يورد: وأسلمت مع سليمان، وأقم وجهك للدين القيم، تتقلب فيه القلوب والإبصار، أزفت الآزفة، إذا وقعت الواقعة، إني وجهت وجهي....[16] وبالطبع فإن القرآن عمد إلى هذا الجناس المطلق وسيلة من وسائل الجذب والسحر اللغوي.
وفي الحديث نجد الرسول يتحدث عن قبائل عصية وغفار وأسلم فيقول: غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله ، وعصية عصت الله ورسوله [17]، ويقول الظلم ظلمات يوم القيامة، المسلم من سلم الناس من يده ولسانه [18] .وفي الفترة الإسلامية الأولى قال رجل من قريش لخالد بن صفوان: ما اسمك؟ قال: خالد بن صفوان . فقال الرجل: إن اسمك لكذب، ما خلد أحد، وإن أباك لصفوان وهو حجر. فقال خالد: من أي قريش أنت؟ قال: من بني عبد الدار. قال:فمثلك يشتم تميمًا في عزها وحسبها، وقد هشمتك هاشم، وأمتك أمية، وجمحت بك جُمح، وخزمتك مخزوم، وأقصتك قصي، فجعلتك عبد دارها .[19]
وحتى في العصور المتأخرة في قصص السير نرى بعض اللازمات تتكرر ، وفيها هذه المحسنات، فمن تغريبة بني هلال مثلاً:
والتقى البطلان كأنهما جبلان، وحان عليهما الحَين، وغنى على رأسيهما غراب البين
وقد أورد الشدياق نماذج كثيرة منها:
فلما ذقت طيب العشق وسوس إلي الوسواس أن أتزوج بنتًا فقيرة مهملة، وهذا العشق يسمى عند الإفرنج العشق الأفلاطوني نسبة إلى أفلاطون الحكيم، ولا حقيقة له عندهم، وإنما هي مجرد تسمية، ويعرف عندنا بالهوى العذري نسبة إلى عذرة قبيلة في اليمن لا إلى عذرة الجارية أي بكارتها .[20]
وفي الأمثال العامية نجد تجنيسًا تامًا وناقصًا : الخال مخلّى ، خيرها بغيرها ،
الأقارب عقارب ، الحركة بركة ، الزيارة غارة .
بل إن الأسماء توحي عند الغضب لبعض الأمهات فعائشة- ليتها لا تعيش، و حسن الله لا يحسن إليه، و محمود الله لا يحمده... وهكذا بقدر ما يسمح الاشتقاق. حتى في الإجابات - -أي أحرف الجواب - فإن نعم تصبح عند الغضب دافعة للإجابة نعامة ترفسك ، و لا (لع) – لعوعة؟؟
وإذا كنا قد استشهدنا من شعر امرئ القيس للدلالة على التشطير ، فيمكننا هنا أيضًا أن نستشهد بنموذج الجناس:
لـقد طمح الطماح من بعد أرضه
ليلبسنـي من دائه ما تلبسـا [21]
فهذه الاستعمالات ليست مجرد تلاعب لفظي، وإنما تدبيج لتمكين المعاني ولتقويتها.
أما الجناس الذي يؤدي إلى تعقيد، ويحول دون انطلاق المعاني فهو المتكلف الذي وجدنا له النماذج الكثيرة في أدب المقامات:
وأقدح زند جدك بجدك، واقرع باب رعيك بسعيك، ولج كل لج [22].
فمثل هذا النموذج لا نجده في لغتنا المعاصرة، ولكنا نجد الاستعمالات المتجددة بصور مراوغة وأحيانًا تدعو إلى الابتسام ، فإميل حبيبي في كتابه المتشائل يستعمل:
- حديث شطط في الطريق إلى سجن شطه.
- فقمت إلى اللوح فصاح: عد لمكانك يا لوح.
- وبرطعوا في برطعة.
- أخذ الذهب وذهب.[23]
ومما ذكر في كتاب أستاذ قد الدنيا لكاتب هذه السطور بعض العينات:
- وصرت معلم الإنجليزية بقدرة قادر.
- أو ليس تشكيل الرئاسة أهم من تشكيل القطعة.
- وما زلت غير مؤهل حتى الآن مع أني مؤهل زواجًا .[24]
وقد جذب نظري في أثناء كتابة المقال صورة قلمية للدكتور إدوار إلياس نشرت في الاتحاد بعنوان أوفاهن وفاء وأجملهن جميلة، وأشرفهن شريفة .[25]
فاللغة هنا تتطور،وتقرب الشكل من المضمون ،أي تستعمل الأسلوب نفسه كحيلة فنية لتوصيل المضمون.
الطباق والمقابلة
الطباق هو الجمع بين الشيء وضده في الكلام، وفي المقابلة أكثر من طباق واحد. قال تعالى: وإنه هو أضحك وأبكى * وإنه هو أمات وأحيا [26]. يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل * ويخرج الميت من الحي [27] ؛ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب[28] ؛لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم [29].
ومثل هذا التضاد يقوي المعنى ويرسخه في ذهن السامع.
وفي الحديث نماذج منه: اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت...
خير المال عين ساهرة لعين نائمة، إياكم والمشارة فإنها تميت الغرَّة وتحيي العُرّة [30].
ومن المقابلة ما يأتي لإيراد الكلام، ثم مقابلته بمثله في المعنى واللفظ من جهة الموافقة أو المخالفة. فإذا كان منها في المعنى فهو مقابلة الفعل بالفعل كقوله تعالى: فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا [31] فخواء بيوتهم وخرابها بالعذاب مقابلة لظلمهم، فهذا هو الربط المناقض، وهو على غرار ما نراه بالإنجليزية كذلك - Anti- thesis ، وهو أسلوب بلاغي نجد نماذج كثيرة له في كل عصر وحتى في اللهجات العامية:
- القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود.
- قرعة تتباهى بشعر بنت خالها.
- العصفور يتفلى والصياد يتقلى.
وسنرى أن هذا الأسلوب يتقوى الضد به عن طريق الضد.
الموازنة
وهو تساوي الفواصل في الوزن دون التقفية نحو قوله تعالى: ونمارق مصفوفة * وزرابي مبثوثة ؛ وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد [32].
ومبنى الجملة في العصر العباسي عامة فيه هذا الترادف الذي تُمكِّن الجملة فيها سابقتها. فمثلاً يقول قدامه في كتابه نقد النثر: .... أن يكون في جميع ألفاظه ومعانيه جاريًا على سجيته غير مستكره لطبيعته، ولا يتكلف ما ليس في وسعه، فإن التكلف إذا ظهر في الكلام هجّنه وقبح موقعه.
فانظر كيف تتشبث الجملة بالأخرى.
وأساليب المنفلوطي وطه حسين والزيات قريبة الشبه بالموازنة، بل إن العقاد الذي أفاد من الأساليب الإنجليزية لم يتخلص من هذه الأنماط المقطعة ، ولنسق مثلاً:
إن الكتابة الأدبية فن، والفن لا يكتفي فيه بالإفادة، ولا يعني عنه مجرد الإفهام. وعندي أن الأديب في حل من الخطأ في بعض الأحيان ، ولكن على شرط أن يكون الخطأ خيرًا وأجمل وأوفى من الصواب [33].
لنعد إلى السؤال: لماذا حافظ العرب على هذا التزيين أو التدبيج على مدى العصور؟
يبدو لنا أن حركة الكتابة والتفكير في صوغ العبارة تلزم التقطيع ذهنيًا آنا بالسجع وآخر بالموازنة، وإذا لم يجد بدًا فهو يعرض عن الموسيقى والإيقاع إلى إيقاع آخر يتمثل بالطباق أو الجناس. يقول صاحب كتاب الصناعتين:
لا يحسن منثور الكلام ولا يحلو حتى يكون مزدوجًا... [34]
فالكلمات العادية لا تثير انتباه القارئ أو السامع، وتتجلى المتعة بالإيقاع نفسه، وفي الإيقاع نوع من التكرار. فإذا قيل: ليس له صديق في السر، ولا عدو في العلانية فإننا نطرب للقسم الثاني، بل أحيانًا نستخرجه وحده، لأنه تكرار من نوع جديد يزيد الإيقاع قوة على قوة.
إذًا فبقدر ما يؤدَّى الغرض الجمالي فإن ثمة مضمونًا تأكيديًا هو إيقاع وتمكين معًا.
وهذه الأساليب منها ما هو تعويض عن قافية الشعر وتمكين معًا. وإذا كان الشعر كثافة معنى وتركيزًا فإن هذا التدبيج أو التزيين يركز الخلاصة في موسقة وجمال بناء شبيهين لما لهما في النظم.
وقد يدخل التكرار في هذا الباب كما نجد أن للمفعول المطلق (وخاصة المصدر للتوكيد) أهمية في هذا المجال، فهي محسنات رغم أنها لم ترد على السنة علماء البلاغة بهذا الوصف. فكلما كانت طبيعية انسابت وانساقت حلى وديباجة، أما إذا تعسفنا فيها وتكلفنا فعندها تكون تلاعبًا لغويًا - لا تغني العبارة بقدر ما تفقرها.
ومع هذا لا نستطيع أن ننكر استعمال كاتب معاصر للسجع أو الطباق، فلغتنا طيعة لمثل هذه المحسنات، ونحن لا نسمي هذا ارتفاعًا في الأسلوب أو انخفاضًا فيه ، كما أن الكاتب الذي يقل منها أو لا يستعملها قطعيًا لا ينقص حظه من الإجادة في الكتابة... فتفاوت العمل الأدبي هو بالأسلوب والشكل، فالشكل هو الذي يرسخ المضمون ، وهو الذي يتلاحم معه.
لنلق نظرة على الاستعمالات المعاصرة لهذه المحسنات في لغتنا الحديثة:
أ- نستعمل كثيرًا منها عناوين لمقالات أو أسماء لكتب ، وخاصة أسلوب الطباق ، فمن الكتب المحلية يحضرني:
مروج وصحار، أسير يقظتي ونومي، اعتناق الحياة والممات، وابل وطل.
وفي عدد واحد من صحافتنا المحلية وردت هذه العناوين:
تريد العشق وتخاف من الحمل، يا جبل ما يهزك ريح، أوفاهن وفاء وأجملهن جميلة وأشرفهن شريفة .[35]
وهناك بعض زوايا في الصحافة أذكر منها : صدى الصدى!
ما الهدف من الهدف؟ الجديد في الجديد- وهكذا كل صحيفة تبعًا لاسمها.
ب- الاستعمال الساخر في اللغة، حتى ولو كانت هناك بعض التجاوزات اللغوية: يقول إميل حبيبي:
كنت أحسبك حمارًا فإذا أنت أحمر.
- أفحمه؟
- بل وفَحَّمه.
- واخذ الذهب وذهب .[36]
ففي المثل الأخير مكّن المعنى ورسخه، فلو قال هذا المثل أخذ الذهب وراح لكانت جملة عادية، ولكن كلمة (ذهب) خدمت المعنى .
وليسمح لي القارئ باستعمال نماذج من كتابي أستاذ قد الدنيا الذي عنوانه يدل على الموازنة والمفارقة:
- أنا رياض برهان أستاذ الرياضيات.
- فأنا نسيج وحدي أو جحيش وحدي.
- أحسب وما أدراك ما أحسب ![37]
ج- نقل جو، وكثيرًا ما يكون نوعًا من Parody فيستعمل الكاتب الصيغ نفسها بصورة مختلفة، ولكنها موحية بالجو الأصلي الذي نبعت منه. ففي كشف اللثام عن أخبار ابن سلام يكتب لنا جمال الغيطاني فصلاً كأنه من فصول الجبرتي [38]. وفي رحلات السندباد السبع يستعمل عبد الرحمن فهمي العبارة يا سادة يا كرام...[39] بشكل رتيب.
وأخيرًا فإن مناحي القول وأساليبه اتسعت هذه الأيام بقدر اتساع الحياة وأساليبها، فثمة الجمل الطويلة على غرار الجملة الألمانية المركبة، وثمة المعتمدة على الاستعارات المختزلة أو المنحوتة، وهناك أنصاف الجمل وكأنها شعر حديث.
وقد وقع في يدي مؤخرًا نموذج من النثر الغريب نشرته مجلة النقطة التي صدرت في باريس. وبرغم هذا الخروج عن مألوف اللغة في مساراتها فإن المحسنات اللغوية بقيت زينة إذا استسيغت وأحكمت، وغدت أغلالاً إذا لم تكتبها يد صَناع، فهي جزء من اللغة والأسلوب ولا تشترط سياق السخرية.
وبعد فليست لنا مقاييس محددة نقيس بها ارتفاع اللغة وانخفاضها. فاللغة متطورة، وما كان عاميًا عند الزبيدي في كتابه لحن العامة أصبح فصيحًا اليوم. وبعض ما نعتبره عاميًا اليوم قد يكون فصيحًا بعد ألف سنة. وليست المحسنات اللفظية تلاعبًا لغويًا كما يحلو للبعض أن يسميها، بل لها مكانتها في خدمة المضمون.
Zaki Abdel Malik: The influence of diaglossia on the novels of yusif al-Sibaai, JAL, 3, 1972, PP. 132-141
تاج العروس للزبيدي مادة سجع.
سنن النسائي ، ج 8 ، دار إحياء التراث العربي، القاهرة ، ص 50.
قدامة بن جعفر، نقد النثر ، مطبعة مصر ، القاهرة - 1939 ، ، ص 107.
البلاقاني، إعجاز القرآن ، دار المعارف بمصر، ص 270. وقد ميز الباقلاني بين السجع يتبعه المعنى، والفواصل تابعة للمعاني ، وهو تمييز غير دقيق عند التطبيق كما يرى الباحث الموضوعي.
سورة الانشراح آية 7-8.
سورة الكافرون آية 1-2.
الدارمي: سنن الدارمي ، ج2 ص 275.
ابن ماجه: سنن ابن ماجه ، دار أحياء الكتب العربية، القاهرة - 1952، ج1 ص 573.
ابن ماجه ج2 ص 1165.
قدامة بن جعفر. نقد النثر ص 102.
ألف ليلة وليلة ، المكتبة الشعبية ، د . ت ، ج2 ص 255.
تغريبة بني هلال ص 53.
انظر الخليلي علي: البطل الفلسطيني في الحكاية الشعبية ، مطبعة ابن رشد ، القدس - 1979.
ديوان امرئ القيس ، بئير أوفست- حيفا ، ص 143.
القرآن الكريم: على التوالي سورة النمل 44، الروم 43، النور 37، النجم 57، الواقعة 1، الأنعام 79.
صحيح البخاري- باب المناقب ص 307.
ن . م - ج1 ص9.
أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين ، دار أحياء الكتب العربية، القاهرة ، ص 323.
الشدياق أحمد، الساق على الساق ص 159 ، وانظر كذلك مقدمة كتاب من الجراب لمارون عبود حيث يعني بالجراب معنى أخر فيــه روح الدعابة.
ديوان امرئ القيس ص 118.
الحريري. مقامات الحريري، المقامة الساسانية ص 575.
إميل حبيبي- المتشائل : قصة أبي سعيد النحس ص 162، 48، 101، 124.
فاروق مواسي. أستاذ قد الدنيا ص 7، 14، 48.
الاتحاد عدد 31/12/82 ص 5.
سورة النجم 43-44.
سورة آل عمران 27.
سورة الحديد 13.
سورة الحديد 23.
صحيح البخاري ج8 ص 105، م.ن ج2 152.
سورة النمل 22
سورة الغاشية 15-16، المسد 4.
مقدمة العقاد لكتاب الغربال- ميخائيل نعيمة ، دار المعارف ، القاهرة – 1946، ص8.
العسكري : كتاب الصناعتين ص 260.
انظر : الاتحاد ، عدد 31/12/82 ، ص 5 .
حبيبي إميل : المتشائل ص 169، ص 167، ص 124.
مواسي : أستاذ قد الدنيا ص 6، 9.
الغيطاني جمال. أوراق شاب عاش منذ ألف عام ، منشورات صلاح الدين، القدس ، ص 99.
فهمي عبد الرحمن. رحلات السندباد السبع ، دار الشروق، القاهرة ، ص 10-11.