بحث حول الأدب الجزائري المعاصر
المتتبع لما تعج به الساحة النقدية الجزائرية من قراءات وتحليلات للنصوص الإبداعية في مختلف الأجناس الأدبية من قصة ورواية وشعر ومسرح، يلاحظ أن ثمة حركة نقدية تواكب ما ينتج وينشر.
وللإحاطة بهذا المجهود النقدي والتعرف على مساره وتوجهاته جاءت فكرة كتاب “أسئلة ورهانات الأدب الجزائري المعاصر”، وهو في حقيقته باكورة يوم دراسي شاركت فيه مجموعة من الأساتذة الجامعيين.
يتعلق الأمر بالتساؤل عن حدود العملية النقدية وآفاقها والأدوات الإجرائية التي توظفها، وكذا محاولات التأصيل النقدي في الجزائر، خاصة في هذه الآونة التي تعيش فيها حالة محك حقيقي في المحيط الاجتماعي على مستوى النخبة والعامة، وحتى على مستوى المثقف الهاوي.
وقد رأى منسق الكتاب الأستاذ جعفر يايوش أن يجمع هذه المقاربات النقدية في محاولة لكسر حاجز الصمت إزاء موضوع أصبح يُرى -حتى من طرف الأكاديميين- بمحجر عين ضيق وازورَّ عنه الكثيرون إلى موضوعات أخرى، وكأن الأمر بضاعة كاسدة ذهب زمانها ونفق سوقها.
واقع النقد الجديد :
يرى الدكتور عز الدين المخزومي الأستاذ المحاضر في جامعة وهران أن النقد الجزائري المعاصر عرف تحولا في المفاهيم التي صارت غير قادرة على مواكبة العصر وتحولاته السريعة والمتجددة، وذلك اقتداء بما عرفه النقد المعاصر من تطور في بعض الدول العربية مثل لبنان وسوريا والمغرب ومصر، حيث نشطت الحركة النقدية بترجمة الكثير من المؤلفات الغربية التي تمثلت المناهج النسقية التي سادت النقد عندهم.
قاد هذا التحولَ في الجزائر أساتذة جامعيون مثل عبد الحميد بورايو وعبد الملك مرتاض ورشيد مالك ومجموعة كبيرة من النقاد الشباب الطموحين إلى التغيير والتجديد مواكبة لوح العصر والاطلاع عن كثب على الحركة النقدية الغربية وكل مستجداتها.
ومن هنا يمكن القول إن الصورة الحقيقية للنقد الجزائري المعاصر لا توجد في الكتب المطبوعة بقدر ما هي موجودة في الرسائل الجامعية، مع ملاحظة أن هذه الدراسات الأكاديمية بقيت حبيسة جدران الجامعات ورفوف مكتباتها ولم يخرج منها إلا أقل القليل.
ولهذا فإن البحث عن الوجه الحقيقي للنقد الأدبي الجديد في الجزائر لا يمكن تلمسه بصورته الكاملة إلا في المكتبات الجامعية، سواء في الدراسات التطبيقية التي تناولت أجناسا أدبية مختلفة، أم في دراسات نقد النقد.
ويشير المؤلف إلى أن الحركة النقدية لم تعد كما كانت سابقا في متناول الجميع بمن فيهم النقاد الأحرار من خارج أسوار الجامعة، ذلك أن طبيعته أصبحت طبيعة فلسفية لا يخوض غمارها إلا خاصة الخاصة من دارسي الأدب.
النقد في الجزائر خاصة وفي العالم العربي عامة أصبح في إطاره العام تابعا لمفاهيم ومعايير النقد الغربي، ولم يحاول إيجاد توازن بينه وبين متطلبات واقع الأمة التي تتخبط في صراعات تزداد حدة في ظل العولمة التي هيمنت على واقع شعوبها
كما أن إشكالية الضبط المنهجي لمفهوم الممارسة النقدية لا تنطبق على النقد في الجزائر فقط، وإنما على واقع النقد العربي المعاصر بكامله، لأنه يعيش نفس التحولات والغايات المرجوة منه.
فالضبط المنهجي يقوم على الوعي النقدي الذي يتأصل ويتبلور نتيجة الوعي بالذات، وهو أساس مقومات الشخصية المتشكلة من القيم الحضارية والفكرية والدينية للأمة.
وبناء على هذا المبدأ يتشكل الضبط المنهجي للممارسة النقدية الأدبية حتى تتغلب المفاهيم الدخيلة بما تحمله من قيم الآخر على القيم الذاتية فتميعها وتصبح تابعة لها.
وهذا ما يشهد عليه الواقع، فالنقاد يطبقون كل ما يقرؤون بحذافيره، دون مراعاة لمتطلبات الواقع الفكري ودرجة التخلف في المجتمعات العربية، مما جعلهم يجنحون في آفاق بعيدة عن واقع المجتمع.
وبقدر ما استفاد النقاد من الانفتاح على الثقافات الحديثة وما احتوته من حركات فلسفية وفنية ونقدية، ازداد الإنسان العربي إقصاء وعزلة لأنه لم يعد قادرا على متابعة مسيرة النقد.
ويؤكد المؤلف أن النقد في الجزائر خاصة وفي العالم العربي عامة أصبح في إطاره العام تابعا -إلى حد بعيد- لمفاهيم ومعايير النقد الغربي، ولم يحاول إيجاد توازن بينه وبين متطلبات واقع الأمة التي تتخبط في صراعات تزداد حدة، خاصة في ظل العولمة التي هيمنت على واقع شعوبها، على الرغم من أن وظيفة الناقد في دستور النقاد تكمن في ربط النقد بالمجتمع.
إن التبعية الكاملة للنقد الغربي تظهر في غزو المصطلحات التي يكتنفها الغموض لأنها تحمل في مضمونها شحنات معرفية وعقائدية مرتبطة بأبعاد الثقافة التي أوجدتها.
وقد نبه الكثير من النقاد إلى ضرورة التمسك بالخصوصية مقاومة للانفلات، والعودة إلى المصطلحات النقدية العربية وتطويرها، بدلا من الانبهار بالمصطلح الغربي ونقله بعوالقه الغربية إلى الثقافة العربية.
الأستاذ الدكتور بشير بويجرة المحاضر بجامعة وهران ينظر إلى القضية من زاوية مغايرة يراها البعض مناقضة لراهن الممارسة النقدية.
ويتصدر الإشكال من وجهة نظره قضية اللغة بشقيها الإبداعي والقرائي النقدي، لكون اللغة عرفت أوضاعا وحالات لم تجربها بقية الأقطار العربية بدءا بالعهود الإسلامية وحكامها غير العرب إلى المراحل الاستعمارية التي طبعتها الحروب، مما أثر سلبا على العملية الإبداعية وعلى اللغة العربية وأساليبها.
يركز المؤلف هنا على اللغة لكونها الآلية الوحيدة الفعالة في تقييم النص وتأشيرة تداوله، وفي هذا المضمار يمكن التأكيد أن المنظومة المفاهيمية للعمل الأدبي في الجزائر تعاني من حالة اللاستقرار واللاوضوح لكونها محصورة بين ثلاثة فضاءات تتصارع حول تلك المنظومة هي: فرنسا الممثلة للعالم الغربي بصفة عامة، والشرق العربي ثم المغرب وتونس.
وليس أدل على ذلك من التذبذب المشهود في توظيف كثير من المفاهيم النقدية عبر المنابع والمجامع الأكاديمية، مما انعكس سلبا على تعاطي القارئ العادي أو الأديب الناشئ مع الظاهرة الأدبية. ولعل أبرز مظاهر ذلك تتجلى في الاهتمامات الكبرى الطاغية على اهتمامات النقاد الجزائريين حتى الساعة وهي: قضية كتابة الأدب الجزائري باللغة العربية أم الغربية.
وكذا العناية -بقدر مبالغ فيه- بأعلام الرواية الجزائرية مثل كاتب ياسين ومحمد ديب والطاهر وطار ورشيد بوجدرة وغيرهم، ليس حسب الطرح الفني والنقدي وما تتطلبه آليات القراءة المعاصرة ولكن باعتبار ذواتهم الشخصية.
الممارسة النقدية وإشكاليات التصنيف:
”حال النقد في الجزائر من حال الأدب والثقافة ونظام التعليم وغيرها، ومن الطموح الزائد أو من التعسف أن نحكم على الجهود النقدية بغير ما أفرزه الواقع العام في هذه التجربة المحدودة”
التصنيف السياسي للأدب عرفُُُ درج عليه أدبنا التراثي إذ صنفت العصور الأدبية على أساس الفترات السلطانية، وضعف الأدب وقوته رهين بالفترة التي كثيرا ما يكون ظلا لها.
ومن هذا المنظور اعتبر الدكتور مخلوف عامر الأستاذ بجامعة سعيدة أن الحركة الأدبية في الجزائر مرتبطة بالخطاب السياسي منذ عشرينيات القرن الماضي على الأقل.
فجمعية العلماء المسلمين الجزائريين كانت حركة بعث لإحياء الأصول وعملت على توظيف كل الأدوات المتاحة بما فيها اللغة العربية وآدابها لخدمة القيم التي أنشئت من أجلها، وهي “قيم ماضوية” بعيدة كل البعد عن مستجدات الحركة الأدبية والنقدية في العالم.
فساد الاتجاه المحافظ الذي يجعل الشعر العمودي في المقام الأول ثم المقالة التي تصلح للدعاية والوعظ، وتأخر ظهور الأشكال النثرية الحديثة، في حين كانت هذه الأشكال قد خطت خطوات متميزة شكلا ومضمونا في أوساط الأدباء الذين يكتبون باللغة الفرنسية.
وربما كانت فترة الاستقلال أدعى إلى الميل نحو كتابة الفن القصصي، لكن صورة الثورة ظلت تلاحق كل الكتاب فظهرت روايات لا تتعدى الوصف بهدف التغني بأمجاد الثورة بينما تجاوزت روايات أخرى ذلك إلى النقد.
على أن الفترة التي برز فيها البعد الاجتماعي في الإبداع وفي المحاولات النقدية على حد سواء هي فترة السبعينيات إلى درجة أن الخطاب الرسمي -وهو الخطاب الاشتراكي يومئذ- قد انعكس بطريقة آلية في كثير من الأعمال.
وكثيرا ما أقحم الفعل الأدبي تبعا لهذه الرؤية في معارك وهمية هي في الواقع صدى للحرب الباردة وتوازناتها الدولية، فهوجمت الإمبريالية والرجعية.. وعزل الأدب المتخم بالنزعة المؤدلجة نفسه وابتنى أصحابه لأنفسهم برجا عاجيا بعيدا عن تطلعات الجماهير وآلامهم وآمالهم وظلت كتبهم تتناسخ مضامينها.
من جهته اعتبر الأستاذ جعفر يايوش منتصف الثمانينيات فترة بروز بعض الروايات الواقعية ذات الوظيفة النقدية السياسية التي تناولت أزمة الديمقراطية والحركة الفكرية.
واستخلص أن هذه الأعمال جاءت لتجعل من الرواية مساحة تتمثل الأنساق الفكرية المتصلة بالمواقف السياسية الرسمية وغير الرسمية، ومن ثَم رهن النص الإبداعي بحسب تلك المواقف التي أصبحت مقياسا جوهريا في الممارسة النقدية، إلا أنها سقطت في شرك التبسيطية والتقريرية المباشرة فصادرت الكثير من الخصوصيات الجمالية للنص.
لكن مع بداية التسعينيات ظهرت موجة جديدة في الرواية الجزائرية تحررت من أسر الرواية الكلاسيكية لتعبر عن انسداد الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، محاولة نقده من زوايا أيديولوجية متباينة.
فظهرت كتابة أدبية جديدة لجيل جديد من الشباب لم يكن معروفا، خرجت كتابته -التي انحصرت بشكل واضح في النص الروائي- من رحم المعاناة الجزائرية.
ومن هنا يجد الناقد نفسه أمام إشكالية تصنيف هذه الكتابة الشبابية الجديدة، خاصة تلك التي كسرت طوق الرواية الحديثة وتجاوزتها، مثل كتابات بشير مفتي وحميدة العياشي وأحلام مستغانمي، سواء على مستوى الموضوع أم على مستوى تقنيات الكتابة.
”النقد ليس سوى أحد تجليات المشهد العام المتأزم، مع أن الأزمة ليست بالضرورة أزمة تدهور كما يتبادر إلى الأذهان عادة، بل قد تكون أزمة تطور”
ومن خلال دراسة مستفيضة لنماذج روائية كروايتي “ذاكرة الجسد” و”فوضى الحواس” لأحلام مستغانمي ورواية “أرخبيل الذباب” لبشير مفتي ورواية “يصحو الحرير” لأمين الزاوي وغيرها، خلص الكاتب إلى أهم السمات الخاصة بالرواية الجزائرية لأدب الأزمة التي تنضوي تحت صنف الرواية ما بعد الحديثة.
من هذه السمات التلاعب بالأزمنة بالانتقال المفاجئ من زمن إلى آخر عبر تقنية تكسير خطية السرد، وكذا إلغاء الحدث الرئيسي كعنصر محرك للنص الروائي، ناهيك عن تعدد الشخصيات واختفاء البطل باتباع مذهب اللامعقول مع الإكثار من العبثية والميل إلى الواقع المأساوي والنهاية المفتوحة.
كما سجل المؤلف ظاهرة جديدة بدأت تطفو على سطح الرقعة الروائية هي ظاهرة التحطيم اللساني بتوظيف اللهجة المحلية والعامية إلى جانب اللغات الأجنبية من فرنسية وإسبانية، بل الوصول إلى أدنى التعبير الشفهي الشعبي بالاقتراب من لغة السوقة وعامة الناس.
وهنا يرى أن ركاكة الأسلوب الطاغية أحيانا عند تمحيصها توحي أنها كانت بفعل واع من الروائي قصد تعرية الواقع في أجلى صور تدنيه وانحطاطه.
وفي آخر الكتاب يؤكد الأستاذ جعفر يايوش أن حال النقد في الجزائر من حال الأدب والثقافة ونظام التعليم وغيرها، وأنه من الطموح الزائد أو من التعسف أن نحكم على الجهود النقدية بغير ما أفرزه الواقع العام في هذه التجربة المحدودة.
فالخطاب الرسمي منذ استقلال البلاد أحدث فجوة كبيرة بين معرب ومفرنس، كما أننا لم نجعل من اللغة الفرنسية غنيمة حرب مثلما قال كاتب ياسين ذات يوم، ولم تظهر لدينا نخبة متميزة في البحث الفلسفي ولا في الترجمة ولا في مجالات متخصصة، ناهيك عما يشوب تدريس الأدب من رداءة في كل الأطوار التعليمية.
من هنا لا يمكن –والحال هذه- إلا أن نقنع بأن النقد ليس سوى أحد تجليات المشهد العام المتأزم، وأن الأزمة ليست بالضرورة أزمة تدهور كما يتبادر إلى الأذهان عادة، بل قد تكون أزمة تطور.