بحث حول المستحثات
مقدمـة
علم الإحاثة دراسة علمية للحيوانات والنباتات والكائنات الحية التي عاشت في عصور ما قبل التاريخ ـ أي قبل 5,000 سنة. وتوجد بقايا الأحافير للكائنات في الصخور الرسوبية (الصخور التي تكونت نتيجة لترسب المادة المعدنية بعيداً عن الهواء أو الثلج أو الماء). والأحافير التي نجدها اليوم كانت حية عندما كانت الصخور تحت التكوين، ومن ثم دُفنت وحفظت بسبب تراكم طبقات الصخور.
وبدراسة الأحافير يصل علماء الإحاثة إلى نوع الحياة الذي كان سائداً في مختلف الحقب التاريخية للأرض. وتعتبر البكتيريا التي عاشت قبل ثلاثة ملايين ونصف المليون سنة أقدم أحفورة معروفة. ويوضح سجل الأحافير ازدياداً تدريجياً في تعقد الحيوانات والنباتات. ويسمى هذا التغير التدريجي التطور أو النشوء والارتقاء.
ولعلم الإحاثة أهمية خاصة في الجيولوجيا، إذ يمكن التوصل إلى عمر الصخور من خلال الأحافير الموجودة بداخلها. كما تبين الأحافير أيضاً ما إذا كانت الصخور قد تكونت تحت البحر أو على اليابسة. وقد تكونت معظم الصخور التي تحتوي على أصداف بحرية تحت البحر، والتي تحتوي على حيوانات أو نباتات برية على اليابسة. ويساعد التعرف على المكان الذي تكونت فيه الصخور العلماء على رسم خريطة للعالم، على النحو الذي كان عليه قبل ملايين السنين. ويسمّى هؤلاء العلماء جغرافيو العالم القديم .
يساعد علم الإحاثة في تحديد مواقع النفط، إذ إن النفط غالباً ما يوجد في صخور تشتمل على أحافير معينة. ولذلك فإن شركات النفط تستخدم هذا النوع من الأحافير للاستدلال على أماكن وجود النفط.
ينقسم علم الإحاثة إلى ثلاثة فروع رئيسية: 1- علم إحاثة اللافقاريات 2- علم إحاثة الفقاريات 3- علم النبات الإحائي الذي يعرف أيضًا باسم علم النبات الأحفوري. فبينما يختص علم إحاثة اللافقاريات بدراسة الحيوانات اللافقارية (حيوانات بلا سلسلة فقرية) مثل الرخويات والمرجانيات، يختص علم إحاثة الفقاريات بدراسة ما انقرض من الأسماك والزواحف والطيور والثدييات. أما علم النبات الإحائي فيختص بدراسة أحافير النباتات.
1- المستحثات
الأحافير تكشف التاريخ القديم
توجد معظم الأحافير في صخور رسوبية . تشكلت هذه الأحافير من بقايا نباتات أو حيوانات طمرت في الرسوبيات مثل الطين أو الرمل المتجمع في قاع الأنهار والبحيرات والمستنقعات والبحار. وبعد مرور آلاف السنين، فإن ثقل الطبقات العليا الضاغطة على الطبقات السفلى يحولها إلى صخور.. وهناك عدد قليل من الأحافير التي تمثل نباتات أو حيوانات كاملة لإنها حُفظت في جليد أو قطران أو إفرازات الأشجار المتجمدة.
يعتقد بعض العلماء أن أقدم الأحافير هي لبكتيريا مجهرية عاشت قبل نحو 5,3 بليون سنة. وُجدت مثل هذه الأحافير في جنوب إفريقيا في نوع من الصخور يسمَّى الشَّرت وهو نوع من المرو. كما عُثر على أحافير مماثلة لبكتيريا قديمة في أستراليا. وأقدم الأحافير الحيوانية هي بقايا اللافقاريات ، وهي حيوانات ليس لها عمود فقري. ويُقدر عمر صخور هذه الأحافير بحوالي 700 مليون سنة. وأقدم أحافير الفقاريات (وهي الحيوانات ذات العمود الفقري) هي أحافير للأسماك يقُدر عمر صخورها بحوالي 500 مليون سنة. والأحافير واسعة الانتشار والعثور عليها أسهل مما يعتقد الكثيرون. وتتوفر في معظم بقاع العالم. وهذا يعود لكون الصخور الرسوبية واسعة الانتشار تغطي حوالي 75 % من سطح اليابسة. ومع هذا يعتقد العلماء أن جزءًا يسيرًا من الحيوانات والنباتات التي عاشت على الأرض قد تم حفظها في شكل أحافير. كما يُظن أن أنواعًًا عديدة قد عاشت واختفت دون أن تترك أي أثر في السجل الأحفوري على الإطلاق. ولكن المزيد من الأنواع الأحفورية يتم اكتشافها دائمًا.
ومع أن السجل الأحفوري غير مكتمل، فإن العديد من المجموعات النباتية والحيوانية الهامة قد ترك بقايا أحفورية. وقد مَكَّنَتْ هذه الأحافير العلماء من تصور نماذج الحياة التي وُجدت في عصور زمنية مختلفة في الماضي، وكذلك معرفة كيف عاشت أنواع ما قبل التاريخ. كما تشير هذه الأحافير لكيفية تغير الحياة مع الزمن على الأرض. توضح هذه المقالة المعلومات التي تقدمها الأحافير عن الحياة القديمة. وللحصول على معلومات عن حيوانات العصور الغابرة، انظر: حيوان ماقبل التاريخ ، ولمعرفة التاريخ الأقدم للإنسان،
كيف تتكون الأحافير
تموت معظم النباتات والحيوانات وتتعفن متحللة دون أن تترك أي أثر في السجل الأحفوري. وتقوم البكتيريا وأحياء أخرى بتحليل الأنسجة الطرية كالأوراق أو اللحوم. ونتيجة لذلك فإن هذه الأنسجة نادرًا ما تترك أي سجلات أحفورية. وحتى أكثر الأجزاء صلابة مثل العظام والأسنان والأصداف والخشب تبلى في النهاية بوساطة المياه المتحركة أو تذيبها مواد كيميائية. إلا أنه عند طمر بقايا النبات والحيوان في الترسبات فإنها قد تصبح متأحفرة. وتحفظ هذه البقايا في الغالب دون تغيير يُذكر. ولكن معظمها يعتريه تغيير بعد الدفن، ويختفي العديد منها تمامًا، إلا أنه يترك سجلاً أحفوريًا في الراسب.
ويمكن الحفاظ على الأحافير بعدة طرق. والطرق الرئيسية لتكوين الأحافير هى: 1- تكوين الطبعات والقوالب والمصبوبات 2- الكربنة (التفحم) 3- التحجر.
تكوين الطبعات والقوالب والمصبوبات
تتكون بعض الأحافير من شكل محفوظ أو خطوط عريضة لبقايا نبات أو حيوان. كما تتكون الطبعات وتسمى أحيانًا الصور أو النقش ، وهي منخفضات أحفورية ضحلة في الصخر، عندما تُدفن بقايا رقيقة من أجزاء من النبات أو الحيوان في راسب وتتحلَّل. وبعد تحوُّل الراسب إلى صخر، فإن ما يتبقى محفوظًا هو في الواقع معالم للنبات أو الحيوان. ويتكون العديد من الآثار من خطوط صغيرة تركتها عظام أسماك أو أوعية ذات جدار سميك كانت قد وجدت في داخل الأوراق. وفي بعض الأحيان تحفظ الأجزاء الناعمة الطرية مثل الريش أو الأوراق على شكل طبعات.
يُشكِّل القالب بعد دفن الأجزاء الصلبة في الوحل أو الطين أو مواد أخرى يمكن أن تتحول إلى صخر. وفيما بعد، تقوم المياه بإذابة الجزء الصلب المدفون تاركة وراءها قالبًا ـ وهو منطقة مجوفة تشبه الجزء الأصلي الصلب ـ داخل الصخر. أما المصبوب فيتشكل عندما ينزح الماء المحتوي على معادن مذابة وجسيمات أخرى دقيقة من خلال القالب، حيث يرسب الماء هذه المواد والدقائق التي تملأ القالب في نهاية الأمر مُشكِّلة نسخة من الجسم الأصلي الصلب. والعديد من الأصداف البحرية محفوظة على صورة قوالب أو مصبوبات.
الكربنة (التفحم). تنتج عندما تترك الأنسجة المتحللة خلفها آثارًا من الكربون. وتُبنى الأنسجة الحية من مركبات الكربون وعناصر كيميائية أخرى. وعندما تتحلل الأنسجة إلى مكوناتها الكيميائية فإن معظم هذه الكيميائيات تختفي. وفي حالة الكربنة تبقى طبقة رقيقة من غشاء كربوني بشكل الكائن. ومن خلال الكربنة تم حفظ أسماك ونباتات وكائنات ذات أجسام طرية بتفاصيل دقيقة جدًا.
دراسة الأحافير
اكتشاف الأحافير. يمكن وجود الأحافير في أي مكان انكشفت فيه الصخور الرسوبية. وفي المناطق الرطبة تكون هذه الصخور مدفونة عادة تحت طبقة من التربة والنبات، ولكنها تصبح مكشوفة بفعل التعرية المائية في أودية الأنهار. كما تصبح الطبقات الرسوبية مكشوفة أثناء عمليات بناء الطرق والمشاريع الإنشائية الأخرى. وفي الصحارى والمناطق الجافة الأخرى تؤدي التعرية إلى كشف صخور رسوبية عبر مناطق واسعة. وكذلك فإن حفر الآبار النفطية يؤدي غالبًا إلى الحصول على طبقات رسوبية حاملة للأحافير من أعماق الأرض. وغالبًا ما تساعد الأحافير المستخرجة من باطن الأرض المنقبين عن النفط على تحديد احتياطيات النفط والغاز الطبيعي.
ويقوم العلماء بالبحث عن أنواع خاصة من الأحافير في مناطق معينة. ففي أمريكا الشمالية، على سبيل المثال، وجدت معظم الثدييات الأحفورية غربي نهر المسيسيبي، في حين وجد هؤلاء العلماء أحافير شبيهة بالإنسان في شرقي وجنوبي إفريقيا. كما وجدت في كندا وأستراليا لافقاريات بحرية محفوظة بصورة جيدة.
جمعُ الأحافير
تختلف طرق جمع الأحافير باختلاف أنواعها. فأسهلها جمعًا أحافير الأصداف والأسنان والعظام المحفوظة في الرمل الناعم أو الوحل. ويمكن للعلماء أن يستخرجوا هذه الأحافير بالمالج (المسطرين) أو بالمجرفة أو باليد. أما الأحافير المحفوظة في الصخور الصلبة فيمكن اكتشافها واستخلاصها بسهولة عندما تصبح هذه الصخور مكشوفة بالتجوية الطبيعية. والتجوية تشير إلى مجموعة العمليات الكيميائية والفيزيائية التي تجزِّئ الصخر على سطح الأرض وتعريه. وفي هذه الحالة نجد أن الأحافير الأكثر مقاومة لعوامل التجوية من الصخور المحيطة تصبح بارزة إلى الخارج بدرجة أكثر من أسطح الصخور المكشوفة. ومعظم هذه الأحافير يمكن جمعها بتفكيك الصخور بإزميل أو مطرقة أو بالخِلال. ويقوم العلماء بجمع الأحافير المخبأة في الصخر الصلب بكسر الصخر باستعمال المطرقة الثقيلة أو باستعمال المطرقة والأزميل. وغالبًا ما تتكسر الصخور المحتوية على الأحافير على امتداد أسطح الأحافير.
أما الأحافير الهّشة فيتعين صيانتها قبل استخراجها من الصخور. ويقوم العلماء عادة بإحاطة الأجزاء المعرضة من الأحافير بطبقات من القماش المبلل بالجص الرطب. وبعد تصلبه يمكن استخراج الأحافير من الصخر ونقلها إلى المختبر حيث تتم إزالة الجص.
وفي المختبر يستعمل علماء الأحافير أدوات كهربائية للطحن وملاقط دقيقة، بل يستعملون إبرًا لإزالة أي صخر متبقٍّ. أما الأحافير المحاطة بالحجر الجيري فيتم نقعها في محلول حمضي ضعيف يذيب الحجر الجيري ولا يؤثر على الأحفورة. وقد يقرر العلماء ترك الأحفورة مكشوفة بشكل لافت للنظر لكنها تظل جزئيًّا مخبأة في الصخر.
التعامل مع الشظايا
. يتم الحصول على العديد من الأحافير في شكل شظايا لابد من تجميعها كأنها أجزاء من أحجية معقدة.
وبصورة عامة ففي المرة الأولى التي يعاد فيها تركيب الأحفورة بهذه الطريقة فإن الشظايا يجب أن تمثل كامل العينة. ويمكن بعدها إعادة التركيب من شظايا غير مكتملة بعد مقارنتها بالأحفورة الكاملة وتعويض الأجزاء المفقودة باستعمال مواد صناعية.
ويمكن إعادة بناء الأحافير الفقارية كتركيبات مستقلة حيث يبدو الهيكل وكأنه قائم بذاته. ويقوم علماء الأحافير أولا ًببناء نموذج صغير للهيكل المكتمل. وبعدها يقومون ببناء إطار من الفولاذ أو البلاستيك أو أي مادة قوية لدعم الهيكل. وأخيرًا يقومون بتثبيت العظام في الجزء الخارجي من الإطار ليتم إخفاؤه.
تصنيف الأحافير
كما هو الحال في النباتات والحيوانات الحية، يتم تصنيف أنواع الأحافير طبقًا لمدى انتماء بعضها لبعض. وبصفة عامة يحدد العلماء مدى الانتماء من خلال مقارنة معالمها الحيوية العديدة. ويعتمد تحديد المجموعات الأحفورية وبصورة أساسية على أشكال الأجزاء الصلبة مثل الأصداف والأسنان والهياكل لأنها تشكل المعالم المحفوظة. فعلى سبيل المثال، ربما ينظر علماء الأحافير إلى شكل الجمجمة وحجم السن عند تحديد الأنواع المختلفة من النمر المسيّف الأسنان.
تحديد تاريخ الأحافير
. خلال سنوات عديدة من البحث، تمكن علماء الأحافير من فهم الترتيب في السجل الجيولوجي لمعظم أنواع الأحافير. وعند أول اكتشاف لنوع أحفوري فالمفترض أن يوجد عادة مصاحبًا لأنواع أخرى. وإذا عرف العلماء موقع وتأريخ حياة هذه الأنواع الأخرى سيكون بمقدورهم تحديد موقع الأجناس المكتشفة. ويشير هذا النوع من تحديد التأريخ فقط إلى ما إذا كانت أحفورة أقدم أو أحدث من الأخرى، ولا يعطي عمر الأحفورة بالسنين.
ويقوم علماء الأحافير بتحديد عمر الأحفورة بقياس النظائر المشعة في الصخور المحتوية على الأحفورة. والنظائر المشعة عناصر كيميائية تتحلل أو تتلاشى لتشكل مواد أخرى. ويعرف العلماء معدل تحلل العناصر المشعة المختلفة. ومن خلال مقارنة كمية النظير المشع في الصخور بكمية المادة المنتجة عن التحلل، يتمكن العلماء من حساب المدة الزمنية التي استغرقتها عملية التحلل. وهذه الفترة الزمنية تشكل عمر الصخور والأحافير التي تحتويها.
2- أوساط الترسيب
تعريف
يصعب عادة، على كل، رسم خط بين عمليات الترسيب وما بعد الترسيب. هل يعد الدوس بأقدام الإنسان أو حوافر الحيوانات على الأدوات في الأرض ترسيباً أم ما بعد ترسيب، ووفقاً لمصطلحات شيفر Schiffer, 1976، هل هو تحول طبيعي أم ثقافي؟ ليس صعباً توفير تناظرات ارتباطية مناسبة عندما يكون ممكناً اقتراح ارتباط طبيعي بين المركبات المختلفة للنموذج وبالتالي قد يكون ملائماً أن نبدأ بعمليات ما بعد الترسيب التي يقل فيها التدخل الإنساني أو الثقافي.
ما بعد الترسيب
على سبيل المثال، بمجرد أن يكتمل بناء منزل، فإن تدهوره وانهياره قد يكون عادة بفعل عمليات طبيعية كلياً. المنازل كلها في حالة انهيار بطريقة واحدة. بدلاً عن أن تسقط من أعلى أو إلى الداخل، فإن مجمل البناء يدور ويغور في الأرض. وفي حين تلتوي أعمدة الجدران فإنها تتسبب في تغيرات يمكن تحديدها في الحفر، وفي الخنادق والقوالب التي نصبت عليها الأعمدة. تشير الحالة الاثنوغرافية بالنسبة لعالم الآثار إلى أنه من الممكن البحث عن مثل هذا التنميط في أشكال حفر الأعمدة والزوايا عند التنقيب في مسكن ما قبل تاريخي دائري الشكل. مثل تلك المعلومة قد تشير إلى أن المسكن قد هجر لينهار بفعل عمليات طبيعية على خلاف إزالته باقتلاعه عن عمد من الأرض كما في مثال زامبيا. ففي زامبيا يتم اقتلاع الأكواخ وتفكيكها عند وفاة واحد من سكان الكوخ الأساسيين من الذكور. ستكون آثار ما بعد الترسيب تلك جد مختلفة عن البارنجو في كينيا. على أية حال، لن نستطيع افتراض أن الانهيار عن طريق الدوران يحدث دوماً بالنسبة للأكواخ الدائرية. مثل تلك العملية في الحالة الكينية تحفزها سطحية أطر الأعمدة وطريقة ربط السقف بأعمدة الجدار. غض النظر، يكون من الممكن اختبار الطرق المختلفة لانهيار المساكن الدائرية المختلفة من حيث البناء، مع التناظرات الممكن تأسيسها على المبادئ الطبيعية الموجودة بكثرة.
عند ما تواجه عالم الآثار مبان مشيدة بطبقات من الطين غير المحروق أو طوب أخضر، فإنه يحتاج إلى مهارات خاصة للتعرف عليها وتفسيرها. المساعدة التي يمكن أن تقدمها الاثنوغرافيا تعتمد على وجود ظروف ايكولوجية و بيدولوجية متشابهة. وفر ماكنتوش McIntosh,1974 قدر كبير من البينة من دراسته لعملية تدهور الجدران الطينية في قرية معاصرة بغرب أفريقيا (هاني : في غرب غانا) والتي أثبتت قيمتها في تفسير ظواهر في موقع آثاري غير بعيد عن القرية. بعض ملاحظات ماكنتوش قد تكون ذات فائدة أوسع. المباني المشيدة من الطين قُدرت استمراريتها بعشرين سنة في الحد الأقصى بدون إجراء ترميمات أساسية و بحوالي سبعين سنة في حالة رعايتها بالترميم المنتظم. الجزء من المبنى الطيني الأكثر عرضة للتلف هو مكان ملامسة المبنى للأرض. المياه الساقطة من السقف، والتي ترش المبنى خلال انسيابها، والمياه التي تنقل الأملاح المحلولة عبر الجدار تساعد كلها في فهم الظاهرة. عادة ما تحتوي الجدران على شقوف فخار وغيرها من النفايات التي تندمج في الطين أثناء تجهيزه على الأرض. ومع بداية انهيار الجدار، تنجرف المواد الأخف وزناً والشظايا الصغيرة بعيداً عن الجدار في حين تبقى الأثقل وزناً والشقوف.
من بين الظواهر الأخرى التي قد تقابل عالم الآثار والتي تكون قد تعرضت لتآكل طبيعي بعد الاستخدام، فإن الحفرة تبدو هي الأكثر شيوعاً. فالحفر، غض النظر عن أشكالها، وحجمها أو وظيفتها، قد تترك مفتوحة قبل أن تملأ كلياً. في غرب زامبيا فإن حفر النفايات يتم عادة هجرها في هذه المرحلة. التجاويف غير العميقة وهى كل ما يتبقى من الحفر تعمل مصيدة للنفايات. يبدو أن الرياح تأخذ في الدوران في المنخفضات الصغيرة تاركة سلسلة من الشظايا العضوية وغيرها من الفضلات. يتكون بالتالي في قمة الحفرة تكدس عالي الكثافة من الشظايا الصغيرة، وتمثل تلك الشظايا قطاعاً عاماً للمواد الصغيرة المتناثرة حول موقع الإقامة.
رغم أنه وفي مثل الحالات المذكورة يتوجب الاهتمام بالتشابهات في المواد، والمناخ، والبيئة، فإن استخدام التناظر يبدو معقولاً لأن المبادئ الارتباطية معنية على الأقل بعمليات طبيعية واسعة الانتشار مثل مفعول الأمطار والرياح على شظايا ذات أحجام وكثافة متنوعة. التناظرات الارتباطية، التي يكون فيها التعبير عن أسباب التناظر ممكناً، تم تطبيقها على قوى غير بشرية متنوعة فاعلة في ترسبات العظام.
العمل الاثنوغرافي المبكر في هذا المجال "التافونومى" قام به برين Brain لفضلات العظام عند الخوان (الهوتنتوت)، وكذلك قام به لي Lee في معسكرات السان (البوشمن) المهجورة. مثال نموذجي نشأ عن اهتمام اسحق Isaac,1967 بتفسير المعطيات العظمية من اولورجيسالي، وهى سلسلة مواقع أشيلية في شرق أفريقيا. في المواقع الآثارية كانت كميات العظام المرتبطة بتكدس الأدوات جد متنوعة. في العديد من المواقع تم الاحتفاظ بالقليل من الشظايا العظمية الصغيرة وبعض الأضراس. أيجوز أن يكون ذلك بفعل عامل طبيعي؟ للإجابة على هذا السؤال وجدت، في منطقة بالقرب من اولورجيسالي، 55 عظماً كبيراً وشظايا عظمية (5-20 سم في الطول) وأكثر من 60 شظية عظمية مدفونة كنفايات. يمكن أن تكون الحيوانات المقتاتة بالقمامة وعوامل طبيعية أخرى قد تسببت في تشتيت النفايات وتمت إزالة معظم العظام الكبيرة كلياً. بالتالي، فإن الأعداد القليلة للعظام الصغيرة في الموقع الأثري لا تشير بالضرورة لحقيقة أن كميات كبيرة من اللحوم لم يتم تجهيزها في الموقع.
جوانب أخرى للمجاميع العظمية تأثرت بالحيوانات المقتاتة بالقمامة جرت دراستها في عرين الحيوانات Crader,1974; Hill,1980; Binford,1981. تطور مثل هذا العمل بفعل مجادلة علم آثارية محددة بين دارت، وشبورن، اردري، وبرين فيما يتعلق بالمجاميع العظمية في مواقع البشريات المبكرة (الاسترالبيتكوس، الإنسان القردي الجنوبي). في تلك المواقع يبدو أن أجزاء خاصة من الهياكل وجدت بصورة إما مبالغ فيها أو شحيحة. هل يعني ذلك أن العظام استخدمت كأدوات، أو أن المجاميع تأثرت بفعل الحيوانات المقتاتة بالقمامة؟ يصف اسحق Isaac,1967 دراسات مبدئية للعظام في الكهوف التي تتردد عليها الضباع. هذا العمل وأعمال أخرى تشير إلى أن العظام التي تمضغها الكلاب، وابن آوى، والضباع قد تؤدى إلى وجود مجاميع متميزة للغاية. تنتج التحيزات جزئياً من التركيب المختلف والكثافة المختلفة ونسب نضوج أنواع العظام. هنا مرة أخرى توجد عمليات طبيعية تسمح بطرح تعميمات بالنسبة للمجاميع الأثرية. فالعظام التي تجمعها الحيوانات المقتاتة بالقمامة تظهر خصائص متميزة، مثل نسبة محددة بين عظام الضلوع والفخذ. بالمقارنة مع المجاميع الاثنوأركيولوجية، يبدو الآن أن الكثير من مواقع الإقامة الباليوليتية في الكهوف البريطانية هي في الواقع مجاميع حيوانات مقتاتة بالقمامة.
في عمل كل من اسحق وكرادر المشار إليهما أعلاه، بقيت العظام الصغيرة. يمكن أن يكون ذلك في حالات بفعل عملية طبيعية إضافية تمت دراستها بتفصيل من جانب جيفورد وبيهرنسميير Gifford and Behrensmeyer,1978. معسكر أقيم أثناء بعثة للبحث عن الطعام في منطقة داسانتش بتركانا في كينيا وشملت ثمانية رجال لمدة أربعة أيام. لاحظ جيفورد أنه وخلال فترة المعسكر، اصطاد الرجال وأكلوا 40 سلحفاة، و4 تماسيح، و14 سلوراً (نوع من الأسماك)، وفرخين (نوع من السمك النهري)، واقتاتوا 15 كيلوجرام من اللحم من حمارين للوحش قتلتهما الأسود. عندما غادروا المعسكر كان هنالك انتشار للعظام على مساحة 17x17 متر مع تمركز الكثافة 3x3 متر حول الموقد. تم تخريط الموقع ومن ثم أعيد تخريطه في العام التالي. العظام التي بقيت في الموقع كانت الأجزاء الأصغر من الهيكل وتلك القابلة للكسر إلى أجزاء صغيرة. بقيت تلك في الغالب لأنها مثلت الشظايا الصغيرة التي يمكن أن تنغرس إلى الأسفل من السطح وبالتالي أصبحت محمية إلى حد ما من سيل مياه الأمطار والحيوانات المقتاتة بالقمامة.
في كل الأمثلة التي ساقها المؤلفان بهدف التشديد على أن معطياتهما الاثنوأركيولوجية يجب استخدامها تناظراً بالنسبة للماضي فقط في حالة ظروف بيئية مشابهة. الجوانب الخاصة بالبيئة (الأمطار، والرياح، والحيوانات المقتاتة بالقمامة وغيرها) يمكن التعرف عليها لأن هناك مترابطات معروفة بين الجوانب المختلفة للتناظر. هذا النموذج مبني على أساس عمليات طبيعية معروفة. لا تجرى هنا محاولة تضمين العناصر البشرية والثقافية. تلك هي الأكثر أهمية في اختبار عمليات الترسيب، وهنا تحديداً ستعترضنا إشكاليات التطبيق.
الترسيب
كثيراً ما تم طرح نقطة انطلاق بدئية بأنه في الكثير من المجتمعات يتم ترك القليل من المواد الصنعية أثناء هجرة موقع الإقامة والرحيل عنه. يصح هذا بصورة خاصة على الجماعات الرعوية البدوية (مثل تركانا الذين درسهم روبينز Robbins, 1973) التي تتحرك كثيراً ولديها القليل من "المتاع". يمكن من خلال تحليل الترسبات تحديد ما إذا كانت تلك الجماعات تمارس بعض النشاطات الزراعية مع أنها رعوية في الأساس. في مواقع خيام المعسكر المهجور قد لا يوجد سوى القليل من القرع اليابس المكسر والعظام المهشمة، وكل ما يتم تركه لا يمثل بحال النشاطات التي قامت هناك. مع ذلك، لا ترتبط الكمية التي يخلفها الناس في موقع مباشرة بمعدلات الحراك ونوعية الاقتصاد. بالطبع، يمكن المجادلة بأن سبب ذلك حقيقة أن الرعاة يفضلون الترحال وهم يحملون "ما خف وزنه" ومن ثم فقد يتركون وراءهم الكثير في مكان معسكراتهم، وليس القليل. ما يترك أو لا يترك في المعسكر يرتبط بسلسلة قيم ثقافية لم تك ضمن موضوع اهتمام الأعمال الاثنوأركيولوجية المنشورة.
واضح على الأقل أن ما يترك في المعسكر بعد الرحيل منه يمثل لوحاً ممسوحاً بالنسبة للنشاطات التي مورست في فترة الإقامة. عادة ما تمر الأدوات الصنعية والمباني في موقع بتواترات طويلة للاستخدام وإعادة الاستخدام. ففي منطقة لوزي بغربي زامبيا تستخدم الجرار المهشمة والشقوف لسلسلة طويلة من الأغراض بدءاً من إطعام الحيوانات المنزلية انتهاءً بجمع الماء. طور إعادة الاستخدام هذا يعني أن الموقع النهائي للشقوف قد لا يرتبط لا بالموقع الأصلي ولا بالوظيفة أو وظائف الأواني الفخارية. يقدم اوشسنشلاجر Ochsenschlager,1974مثالاً أكثر تفصيلاً لإعادة استخدام الفخار في جنوب العراق المعاصر. هنا فإن الشكل "الكوزي" للجرة عندما يكون في حالته الفعلية يستخدم للماء أو الملح، لكنه عندما يتعرض للتشقق الشديد فإنه يستخدم للحبوب. عندما يتهشم، تستخدم الشقوف الكبيرة لإطعام الدجاج والديك الرومي وسقيه في باحة المنزل، أو لتخزين كميات قليلة من أنواع مختلفة من حاجيات المنزل.
إعادة استخدام المنازل والمباني الأخرى أمر يحدث أيضاً. ويوضح ديفيد في بحثه المنشور في العدد الثالث من مجلة الآثار العالمية "المركب الفولاني وعالم الآثار" إلى أن المنازل لدى الفولاني في الكميرون، يعاد استخدامها بصورة مستمرة عششاً سكنية، وعششاً للنوم، وعششاً للضيافة، وعششاً للرجال، وعششاً للعزاب، وعششاً للدجاج، وعششاً للتخزين David,1971. كما ولا حظ كل من كرانستون في بحثه "التيفالمين: سكان نيوليتيون في غينيا الجديدة" Cranstone,1971، وهيدر في بحثه "الفرضيات الآثارية والوقائع الاثنوأركيولوجية: رواية تحذيرية من غينيا الجديدة" Heider,1967 إعادة الترتيب المستمرة دوماً للأفراد في العشش. مثل إعادة الاستخدام هذه ستؤثر بوضوح على محاولات إعادة تركيب التنظيم الاجتماعي أو على مدى الوظائف في موقع آثاري. ويشير هيدر إلى أن شعب الدونجوم داني في غينيا الجديدة بمجرد أن يهجروا موقعاً فإنهم يحيلونه إلى حديقة ويحفرونه، مدمرين بالتالي حفر الأعمدة وكافة آثار ما كان يوماً ما مباني.
آخذين في الحسبان كل تلك الإشكاليات فإننا لا نندهش عندما يزور عالم الآثار موقعاً هجر حديثاً ويواجه صعوبات في إعادة تركيب النشاطات المرتبطة والتنظيم الاجتماعي. المخبرون الذين عاشوا يوماً ما في الموقع أو عرفوه لا يمتلكون القدرة على تعزيز تكهنات عالم الآثار. مع كل، من الضروري الابتعاد عن تلك "المعوقات" وعن التعداد السلبي للصعوبات والتعقيدات. إجراءات هجرة الموقع وإعادة الاستخدام هى أمور معقدة ومتنوعة على كل حال، لكن من الضروري اختبار الأسباب الكامنة المؤدية إلى التنوع. فرضية محتملة يمكن أن تكون أنه كلما قل رأس المال أو قلت القوة العاملة المطلوبة لتشييد مبنى، كلما زاد التطابق بين المبنى ومستخدميه. الحجة الكامنة في مثل هذه الإفادة أن المباني التي يبذل القليل من العمل في تشييدها يمكن إعادة بنائها لتفي بمتطلبات متغيرة. هذه وجهة نظر تعتمد مبدأ ادخار الطاقة، والفاعلية التي قد تتطابق مع المحتوى الثقافي لمجتمعاتنا الحالية. لكن يمكن للمرء أن يجادل بطرح رؤية معاكسة: أنه كلما قل رأس المال المخصص للتشييد كلما قل التطابق. الحجة هنا ستكون أن المباني التي تبذل القليل من الطاقة في تشييدها هي تلك المباني غير ذات الأهمية الخاصة ويمكن استخدامها لأداء وظائف مختلفة وأغراض متنوعة ومن قبل أناس مختلفين. واضح أنه من غير المثمر الجدل بهذه الطريقة المسبقة، وفرض منطق- كاذب. هنالك حاجة لتطوير تناظرات ارتباطية يمكنها اختبار سلوك هجرة الموقع وإعادة استخدامه في محتويات ثقافية محددة. فقط عندما نفهم بعض الصلات الثقافية المحتواة في حالة بعينها يمكن لنا الاندفاع في محاولة التعميم.
يتطلب ذلك اختبار المحتويات الثقافية في إطار دراسات أخرى لعمليات الترسيب. المجادلة التي نشبت بين يلين وبينفورد حول عما إذا كانت نشاطات الصيادين الجامعين داخل موقع تفضي أو لا تفضي إلى ترسيبات متمركزة يعتمد على سلسلة من العناصر الثقافية والمحتوياتية والتي لم يبدأ في اختبارها Binford,1978. حجج مشابهة تنطبق على سلسلة مناقشات طويلة تتعلق بأسباب حدوث عدم التوازن في مجاميع العظام بين عظام الأجزاء السفلى والعليا، أو تتعلق بتلميح يلين بأن التنوع في صيانة الأدوات يرتبط بمدى طول الإقامة في الموقع. في كل تلك الحالات فإن الأسباب الثقافية لتنميط الثقافة المادية وارتباطاتها تظل غير مختبرة.
يمكن المجادلة بشأن بعض الارتباطات بين عمليات الترسيب والمتغيرات الاجتماعية بأن هنالك بعض الصلات السببية الطبيعية أو الضرورية. يشير دافيد في بحثه "حول المدى العمري للجرة: نوع التواترات والاستدلال الآثاري" David,1972 إلى أن نوع الجرة المستخدم عادة ويتهشم دائماً سيكون تواتره أعلى في مجاميع الموقع أكثر من جرة التخزين التي تستخدم بدرجة أقل ويقل معدل تهشمها. ذلك "الاستخدام الحياتي" الذي يؤثر في مركب المجاميع هو حتمية رياضية. كذلك فإن للسلوك الإنساني مقيداته. أوضحت دراسات للنفايات في مجمع جامعة أريزونا إلى أن القطع الصغيرة (الأقل من 4 بوصات) تم رميها تقريباً خارج سلال النفايات، لكن الموضوعات الكبيرة وضعت في داخل السلال (انظر كتاب شيفر: علم الآثار السلوكي Schiffer,1976:188). عموماً يمكن للمرء أن يجادل بأن الموضوعات الصغيرة، فقط لكون رؤيتها تكون أقل ولأنها أقل إزعاجا للمارة، فان احتمال تنظيمها في مناطق مخصصة لوضع النفايات أقل احتمالاً. كما وأن الموضوعات الصغيرة أقل سهولة في الإمساك بها وبالتالي يتم رميها بمعدلات أعلى. قد نقول بأن النموذج يعتمد على خصائص أساسية لرؤية العين والبديهة الإنسانية. فقد لاحظ كل من هوايت ومودجسكا White and Modjeska, 1978 في غينيا الجديدة أن الفؤوس الكبيرة المفقودة في منطقة الغابات قد "ضاعت نهائياً" في حين أن احتمال العثور على تلك المفقودة في داخل الموقع يظل أمراً ممكناً وبالتالي فإن إمكانية إعادة استخدامها تكون أعلى.
لكن، بالطبع، الكثير يعتمد على القيمة الملصقة بالموضوع وطبيعة استخدامه. لم يختبر شيفر ولا هوايت ولا مودجسكا المحتوى الثقافي الكامل الذي تكون فيه المواد الصنعية ذات الأحجام المختلفة قد ألقيت إلى الأرض وتركت. هناك حاجة لاستقصاء الطريقة التي تم بها الاعتناء بالموضوعات الصنعية ذات القيمة العالية، أي كيفية حفظها، وصيانتها، وإعادة استخدامها، وإعادة تصنيعها إلى أن يتم التخلص منها في الأخير.
قدم بنفورد توضيحاً، في بحث نشره في عام 1976 عن التاريخ الديموغرافي للنوناميوت، لمفهوم الرعاية رغم أنه، كما سنرى، لم يتعد هذا الإسهام الطابع الوصفي والتعريفي ولم يتعرض للتفسير. وجد بينفورد أن العديد من أدوات النوناميوت من الاسكيمو تتم رعايتها بقدر كبير من الاهتمام. تنقل الأدوات مع الصيادين في ترحالهم. وتُرجع الأدوات الصنعية إلى المعسكر القاعدة أو إلى وحدة الإقامة للصيانة التي ينتج عنها بعض النفايات. إلا أن الأدوات نفسها تحمل في أثناء الترحال وهو ما يؤدي إلى التخلص منه أو ضياعها بعيداً عن المعسكر القاعدة. في مثل تلك الحالات لن يكون هناك ارتباط في مجاميع الموقع بين المنتجات الثانوية للنشاطات (على سبيل المثال، العظم وترسبات الطعام) والأدوات المستخدمة في تلك النشاطات. في الحقيقة فإن بينفورد يتوصل إلى سلسلة من الإفادات بشأن المجتمعات التي تهتم برعاية الأدوات الصنعية وتلك التي لا تهتم بهذه المسألة. على سبيل المثال، في الحالات التي لا توجد فيها رعاية "حيث الأشياء الأخرى متساوية"، كلما كثرت الأدوات هناك في وسط المجاميع، كلما كثرت أنقاض بقايا تصنيع الأدوات. في حالة الرعاية، لا توجد علاقة بين الأعداد الكلية للأدوات وكمية أنقاض بقايا تصنيع الأدوات.
في تلك الإفادات عرف بينفورد بوضوح وبقدر من التفصيل ما يشتمل عليه بالتحديد مفهوم الرعاية، ووفر لعالم الآثار طريقة أخرى لتصنيف المجتمعات. لكن ولكيما يكون من الممكن استخدام هذه المعلومة بوصفها تناظراً ذا قيمة تفسيرية، فإننا نحتاج إلى معرفة شئ عن العملية التي تقود إلى الرعاية؛ لماذا تهتم أو لا تهتم بعض المجتمعات برعاية المواد الصنعية. طالما أنه من المحتمل أن تهتم المجتمعات برعاية بعض الأشياء لكن ليس بأخرى، فإن سؤالاً واقعياً قد يبرز عن السبب في الاهتمام برعاية بعض الأدوات الصنعية وليس بأدوات صنعية أخرى. المحاولات التي بذلت للإجابة على تلك الأسئلة ركزت على استثمار الطاقة وقوة العمل. قد يجوز الادعاء بأنه كلما تزايد حجم الطاقة المستثمرة في خلق أداة صنعية، فإنه يكون أقل احتمالاً التخلص منها قبل انتهاء عمرها الافتراضي.. في حين أنه قد يكون صحيحاً بالنسبة لمجتمعاتنا الحضرية الحالية أن يتم الاحتفاظ والاهتمام برعاية المصنوعات التي بذلت طاقة كبيرة في إنتاجها، فإنه يظل أمامنا واجب إثبات أن الأمر نفسه ينطبق على كل المجتمعات الأقدم أو البدائية المعاصرة. حتى لو أن النوناميوت الاسكيمو قد كثفوا من استخدام موادهم، فإن ذلك لا يقول لنا ما يكفي عن المحتوى الثقافي لفهم أن يكون الأمر لديهم بهذه الطريقة.
كما أوضحت في الفصلين السابقين، أن إحدى الطرق لمحاولة دعم التناظرات يتمثل في تبيان أن العمليات الموصوفة تحدث في ثقافات عديدة. التفسير والتبصر يسعى للوصول إليهما لا في محتوى ثقافي محدد، ولكن في تنوع متساوق من المتغيرات. من ثم فإن اختبار لماذا يتخلص الناس من نفاياتهم بطرق مختلفة يتطلب بالضرورة إجراء دراسة لثقافات مختلفة (كل- ثقافوية cross-cultural). حاول مورى في بحث له عن "أمكنة النفايات: المعطيات الاثنوغرافية" Murray,1980 استخدام هذه التقنية لاختبار تعميمات شيفر القائلة بأنه مع تزايد سكان الموقع (أو احتمالاً حجم الموقع) وزيادة الكثافة السكانية، سيكون هناك انخفاض في التطابق بين استخدام أمكنة العناصر المستخدمة في النشاطات والتي تم التخلص منها وبين تلك التي تم التخلص منها في الموقع.
اعترفت موراي بأن أعمال المسح التي أجرتها عانت من صعوبات تتعلق بتحديد المساحات السكنية في مجتمعات الرحل والمستقرين. ما وجدته هو أن السكان الرحل ينزعون إلى ترك نفاياتهم في المساحات السكنية والتي عرفتها بأنها مناطق مفتوحة حول المواقد أو داخل المركبات. بالنسبة للسكان المستقرين فإن المساحات السكنية، التي عرفتها بداخل الأكواخ، تكون نظيفة. واضح أن هناك علاقة متبادلة بين النفايات وبين داخل مناطق النشاطات وخارجها، لكن يبقى من غير الواضح عما إذا كان هناك أي اختلاف مهم بين السكان الرحل والمستقرين، وعما إذا كانت المكتشفات "تختبر" تعميمات شيفر.
تقدم موراي سرداً جيداً لتلك الصعوبات لكن هناك مشاكل أخرى موروثة في كافة المسوحات الكل- ثقافوية. على سبيل المثال، إلى أي مدى كانت المجتمعات المستقرة المدروسة مستجيبة لسيطرة الحكومة وسياسات الصحة العامة؟ فاللوزي في زامبيا هم شعب مستقر، ويحافظون على أكواخهم نظيفة ويحفرون حفراً لدفن النفايات. لكن ليست هذه هى الممارسة التقليدية. لقد تم إدخال هذه الممارسة الخاصة بدفن النفايات من قبل مفتشي الصحة الحكوميين الذين يشرفون على شئون الصحة العامة. هنالك فقدان عام للاستقلال بين المجتمعات الاثنوغرافية مما يجعل من أية علاقة متبادلة يظهر قدراً من التحيز. ما يعرف بإشكالية جالتون هو أن السمات قد لا تكون مستقلة لكنها تكون موزعة مكانياً بفعل الانتشار. تأثير هذه "العلاقة المتبادلة آلياً" يعني أن العلاقات المتبادلة قد تحدث بين السمات غير المرتبطة سببياً، لكن تحدث، بسبب الانتشار، لتغطي المناطق المتداخلة.
واضح إذن، ولأسباب مختلفة قد يمكننا التعرف على علاقة متبادلة بدون معرفة سببها. بالطبع من خصائص المسوحات الكل- ثقافوية أن المحلل لا يمتلك سوى فكرة محدودة عن لماذا تحدث علاقة متبادلة معينة بحيث يتوجب عليه أن يوفر شكلاً من خلفيته الثقافية الخاصة. على سبيل المثال، تفترض موراي أنه في مناطق السكن طويلة الأمد ستخلق النفايات "عدم راحة، ومشاكل صحية، وتقليل لمساحة النشاطات الخ." Murray 1980: 492. لا شك أن ذلك إنما يمثل إدخالا قسرياً للمواصفات الأوربية على المعطيات الاثنوغرافية، ومع أن موراي قد تكون محقة في قراءتها للسبب، إلا أنه من الضروري إثبات العلاقة عن طريق اختبار أكثر تفصيلاً للمحتويات الثقافية. أي، أنه لا بدَّ من تطوير تناظرات ارتباطية.
تأتي خطوة باتجاه تناظر ارتباطي لعمليات الترسب من محتوى تاريخي. يلاحظ ديتز Deetz, 1977 أنه في مواقع القرن السابع عشر الآثارية في شمال أمريكا كانت النفايات ترمى فحسب إلى خارج المنزل بالقرب من المدخل. غالباً ما كانت الخنازير والدجاج القريبة من المنزل تأكل ما يصلح من تلك النفايات، تاركة المتبقي منها ليغطى تدريجياً بالأتربة. فوق ذلك، دفنت الأدوات المكسرة بفعل الدوس عليها بالأقدام واختلطت. لكن بعد عام 1750، حفر الناس حفراً مربعة، تبلغ في حالات سبعة أقدام عمقاً، لدفن نفايات المنازل (الأدوات الصنعية وبقايا الطعام). البقايا في حالة حفظ جيدة ويمكن العثور على قطع كبيرة من المواد.
هذا التحول في عادات التخلص من النفايات يمكن ربطه سلوكياً بزيادة حجم السكان وكثافتهم. لكن يشير ديتز إلى أن المواقع ذات الكثافات المختلفة، حفرت بداية حفراً في الطور نفسه. وبما أن توقيت التحول تتوافق مع تحولات أخرى في التقاليد، يفترض ديتز أنها ترتبط بتعديل في الرؤية الكونية، أو في نمط الحياة، وقع بحوالي 1750. يعادل ترتيب النفايات في الفترة اللاحقة لتنظيم فصل أنواع الطعام، واستخدام الأطباق الفردية بدلاً عن الجماعية للأكل، وتحولات أخرى حدثت في السلوكيات. التحولات المادية ترتبط بالتغيرات في الدور المركزي للدين، والتحولات إلى نظام السوق الحرة، والثورة الصناعية.
في حين تبقى تلك العلاقات بين التحولات بحاجة إلى توضيح، وحيث لازالت الكيفية التي أثرت بها إعادة تنظيم النفايات على الأفراد و استراتيجياتهم الاجتماعية بحاجة إلى دراسات أعمق، فإن ديتز قد أشار إلى النقطة الأكثر أهمية بأن التعامل مع النفايات والسلوك تجاه القاذورات يمثل سلسلة واسعة من القيم الثقافية ولا بدَّ من تفسيره وفق تلك المصطلحات.
قد يكون مثيراً أن الأجيال الحالية من علماء الآثار الأوربيين الشباب لم يكونوا أكثر إدراكاً لأهمية المحتوى الثقافي والتاريخي للسلوك تجاه النفايات. فجيل الستينيات في القرن العشرين المنصرم من الأوربيين كان في جزئه الأكبر من الهيبيز أو أقام علاقات مع الهيبيز. وقد استخدم الهيبيز القاذورات، وعدم التقيد بالنظام، وجوانب الفوضى كجزء من المواجهة مع النظام الرأسمالي ومع عالم الأكبر سناً. أصبحت القذارة والنفايات شكلاً من أشكال الرفض. ما رأت فيه المجموعات السائدة قذارة وأوساخاً استخدم لمواجهتهم وإقلاق راحتهم.
عملية مختلفة لكنها ذات ارتباط لاحظتها بحذر وبرؤية نافذة جوديث أوكلي Okely 1975. في هذه الحالة لم تكن مجموعة الأقلية من شبيبة الطبقة الوسطى لكنهم كانوا الغجر. يختبر أوكلي تابو الرمزية والتلوث في مجتمع الغجر، وتبين أوكلي بخاصة أهمية دور المرأة في مثل هذه المحتويات. لم يكن تحليلها خاص بسلسلة من الأعراف التجريدية. خلافاً للمثال الذي ساقه ديتز، هناك تحليل شامل لاستخدام رمزية الأوساخ في محتوى اجتماعي واقتصادي.
يحتل الغجر بيئة ايكولوجية خاصة في المجتمع الأكبر الذي يعيشون فيه. يعتمدون اقتصادياً بصورة مباشرة على المجتمع المستقر الذي يدورون في فلكه ويوزعون بضائعهم ويقدمون خدماتهم. باستغلالهم لقدراتهم على التنقل وعدم تقييد أنفسهم بحرفة واحدة، فإنهم يملأون فجوات عرضية ومتقطعة في نظام العرض والطلب. الكثير من هذا العمل يحمل في طياته درجة تراتبية متدنية ويرتبط "بنفايات" المجتمع الأكبر – المستقر غير الغجري. جامع الخردة والخرق، الباحث عن المواد في نفايات بقية أفراد المجتمع، يتقبل تبني الوضع المتوقع من الحيوانات المقتاتة بالقمامة.
تفترض جوديث أوكلي أنه، بفعل بيئتهم الاقتصادية وبسبب القيم المعطاة لتلك البيئة من قبل المجتمع الأوسع، يتحمل الغجر مخاطرة إذلال النفس. هناك خطر انعدام احترام الذات وإحساس متزايد بعدم الواقعية. سلامة الغجر مهددة باستمرار بفعل وضعيتهم الدونية. لمعالجة ذلك يحاول الغجر حماية الذات الداخلية رمزياً، عن طريق إقامة تمييز بين داخل الجسد وخارجه. الجلد الخارجي مع قشرته المطروحة جانباً، والقذارة المتراكمة، والمنتجات الجانبية مثل الشعر، وتصريف البراز، كلها ملوثة. الجسد الخارجي يرمز للمظهر الخارجي للذات كما يتصوره الآخرون الذين يصنفون هم أنفسهم بوصفهم قاذورات. الجسد الداخلي يرمز إلى الذات السرية، الاثنية.
تكمن هذه الفكرة في أساس الكثير من تنميط نفايات مواقع الإقامة (وجوانب أخرى من الثقافة المادية) التي يمكن إدراكها آثارياً بصورة مباشرة. مثل هذه السلوكيات تشكل السجل الآثاري. مساكن الغجر من الداخل نظيفة إلى درجة مدهشة، ارتباطاً بالحاجة إلى الإبقاء على الجسد الداخلي نظيفاً. كل الطعام الذي يدخل إلى الجسد يجب تطهيره بحذر ووفق شعائر طقوسية. الخوارج، أي المعسكرات الغجرية كما يراها الآخرون، قذرة، عادة ما تغطيها الأوساخ والبراز. هذا هو العالم الخارجي كما يتوقعه الآخرون، لكنه من ناحية أخرى، تهدد الأوساخ الآخرين وبالتالي تمنح الغجر دوراً نشطاً وقوياً في المجتمع الأكبر الذي ينخرطون فيه.
إلى هذا الجانب من الدرس في بحثنا عن المستحثات وأوساط الترسيب نتمنى أن تكونوا قد استفدتم وأخذتم معلومات ربما لم نكن نعرفها حول المستحثات وأوساط الترسيب نرجوا من الله أن يوفقنا ويوفقكم في المزيد من طلب العلم لأنه فريضة ونتقدم في هذا الموضوع بشكر أستاذ المادة على حسن تدريسه لنا والمعلومات الكافية التي تؤهلنا إلى النجاح.إن شاء الله.
قائمة المصادر والمراجع المعتمدة