امبراطورية قرطاج ...وطن التجار المحاربين في غرب المتوسط.
قرطاج.. أعظم مدن الفينيقيين وأجلّها في المغرب الكبير
أقام الفينيقيون جسراً عملاقاً بين حوضيْ البحر الأبيض المتوسط الشرقي والغربي مستفيدين في أواخرالألف الثانية ق.م من ظروف عسكرية وتقنية
، منها أفول نجم الأسطول الإيجي، وتطور بناء السفن وعلم الابحار الفينيقي، وأضحت الأساطيل الفينيقية تصل بين ضفاف المتوسط مستندة إلى جزره ومرافئه الطبيعية، فحلّ الفينيقيون في العديد من جزر المتوسط وسواحل شمال إفريقيا. وقد تحدث المؤرخون القدامى عن الحضور الفينيقي في الأقطار المغاربية التي كانت تدعى بلاد (لوبة). ولعل أول اتصال فينيقي بتلك البلاد كان في نهاية الألف الثانية ق.م، حين أسّس الفينيقيون مدينة (أوتيكة) على الساحل التونسي، وعلى بعد ثلاثين كيلو متراً شمال العاصمة تونس. ومن المدن التي أسسها الفينيقيون في القطر التونسي مدينة (هبيون)، التي تدعى اليوم (بنزرت)، ومدينة (هدريم)، سـوسـة الحالية على الساحل التونسي. وثمة مدينة (لمطة) على الشاطئ جنوب سـوسـة، وهناك مدينة (ليكش) على الضفة الجنوبية من المضيق الفاصل بين إسبانيا والمغرب الأقصى، ومدينة (تفاشة) المعروفة اليوم باسم (تبازة)، التي تقع غرب مدينة الجزائر. وعلى السواحل الغربية من الجماهيرية الليبية، أقام الفينيقيون مدن (لفقي) و(ويّة) و(سبراطة). على أن قرطاج تبقى أعظم مدن الفينيقيين وأجلّها في المغرب الكبير، فقد تمكنت بفضل سيادتها السياسية والتجارية من أن تكون إمبراطورية امتدت في القرن السادس ق.م من حدود (لوبة) إلى أعمدة هرقل، وضمت جزر الباليار ومالطة وسردينيا وبعض المواقع على ساحل إسبانيا والغال، وقد جعلها ذلك أكثر شهرة من أمها صور.
قرطاج (814 ـ 146 ق.م) الميلاد الأسطورة
تتلاقى النصوص القديمة والأدلة الأثرية لتثبت أن تأسيس قرطاج يعود إلى نهاية القرن التاسع ق.م. وقد جاءت أخبار تأسيس المدينة من خلال الحديث عن أسطورة عليسة (أليسار)(1) التي تتلخص في أنها هربت من صور بعد موت أبيها (متان)، ومقتل زوجها (أشيرباس) كاهن ملقرت ـ هرقليس، وصاحب المرتبة الأولى بعد الملك متان. وكان مقتله على يدي أخي عليسة الصغير (بجماليون) المتولي عرش صور والطامع بثروة زوجها. أما الملك متان فكان قد أوصى قبل وفاته بالعرش لابنه بجماليون ولعليسة ابنته الحسناء الجميلة، لكن الشعب سلّم الحكم لأخيها رغم صغر سنه. إلا أن عليسة نجحت في نقل أموال زوجها المتوفى معها بمساعدة بعض أفراد حاشية القصر الملكي في صور الذين اصطحبتهم معها إلى جانب أعضاء مجلس الشيوخ والكاهن الأعلى لعشترت المقيم في قبرص، محطتهم الأولى، والذي ضم بدوره إلى موكب عليسة ثمانين فتاة من عذارى الجزيرة رأت فيهنّ الأميرة المهاجرة عوناً ربانياً لتأمين نسل للمدينة الجديدة المنشودة قرطاج. وقد كان الطريق إلى ساحل أفريقيا آمناً، لاسيما وأن بجماليون أعرض عن ملاحقة أخته بعد نبوءات العرافين بأنه لن يسلم من العقاب كل من يعيق تأسيس مدينة سبغتها الآلهة بنعمتها.
وهكذا وصلت عليسة ورفقاؤها ساحل أفريقيا، وفي موقع قرطاج حصلت من السكان المحليين على أرض كبيرة بعد حيلة جلد الثور الذي أقنعت السكان بأن الأرض التي تريدها لا تزيد عن مساحته، ثم قطعته إلى شرائح رفيعة أحاطت بها الأرض التي أرادتها، والتي أضحت في ما بعد أرضاً يدفع الفينيقيون أجرتها السنوية على أصحابها. وفي تلك الأثناء توافد فينيقيو مدينة (أوتيكا)، المعمرة الفينيقية الأولى في تونس1100ق.م، ورأوا في القادمين من صور وقبرص أقارب لهم، فأتوهم بالهدايا، وأوصوهم بتأسيس مدينة في المكان الذي شاءه الحظ لهم ملجأ، فقامت المدينة الجديدة (قرت حدشت) على أرض مدفون فيها رأس حصان، فكان نذير خير ومؤشر قوة مفاده أن الشعب سيكون محباً للحرب عزيزاً.
وأقيمت المدينة في هذا الموقع ذي الطالع السعيد، فأضحت الأقوام تتوافد وقد أغرتهم سمعة المدينة الجديدة، وسرعان ما نما عدد سكانها وعظم شأنها.
(يرباص)، الملك الأفريقي المحلي، ملك المَكْسَويين، وقع في حب عليسة، وطلب يدها من الأعيان العشرة الذين استدعاهم، وقرر أنْ لا بديل عن الاقتران بها سوى الحرب، ولما علمت عليسة انتهت إلى جواب مفاده أن تذهب إلى حيث يناديها مصيرها ومصير المدينة، واستمهلت الأعيان ثلاثة أشهر حتى أقامت محرقة على حدود المدينة، ونحرت عدداً كبيراً من الحيوانات قرباناً، وكأنها تريد السكينة لروح زوجها، ثم أخذت سيفاً وصعدت فوق المحرقة، وعندها توجهت إلى الشعب قائلة إنها ستلتحق بزوجها صوناً لذكراه، ثم طعنت نفسها بالسيف، الأمر الذي علق بذاكرة القرطاجيين، وأثّر في نفوسهم أجيالاً قادمة، وظلّت عليسة كالإلهة مشرَّفة مكرَّمة ما دامت قرطاجة متألقة قوية.
وفي أحداث الأسطورة السابقة نلمس خيوطاً تاريخية تقود إلى القول إن قصة عليسة تستمد مقوماتها من أرومة فينيقية قرطاجية، أما بعض ما جاء فيها فيؤكد ما احتوته حوليات صور من أن عليسة غادرتها وأسست قرطاج في السنة السابعة لحكم أخيها بجماليون ملك المدينة (814 ـ 803 ق.م).
وبغض النظر عن درجة قرب أحداث الأسطورة من الواقع التاريخي، الذي لمسنا بعض جوانبه من خلالها، فهي تبقى إبداعاً فنياً أفرزه الخيال الفينيقي من خلال لوحات رائعة تجسّد كيف كان الفينيقيون والقرطاجيون يتصورون نشأة مدينتهم.
قرطاج الأثرية
ما انفك ملف قرطاج الأثري يزداد سمكاً من حيث الكم والنوع(2)، فحفريات التسعينيات من القرن الماضي في الموقع أثبتت وجود أطلال فينيقية تعود إلى القرن الثامن ق.م، وهذه الأطلال تقرّبنا من عام التأسيس، أي 814 ق.م، ونظراً لزحف العمران، وتواضع الإمكانيات المرصودة للبحث والتنقيب في موقع قرطاج، فإنه يعسر الوقوف على أولى خطوات المدينة التي تركت من الشواهد الأثرية على قرونها اللاحقة ما لم تترك مثله أية مدينة فينيقية.
تعود أقدم اللقى الفخارية في مدينة قرطاج (المعبد المقدس) إلى القرن الثامن ق.م، وهي متنوعة الهوية والأشكال، فمنها الشرقي، ومنها الإغريقي، ومنها المحلي الذي اشتهر بلونه الأحمر، وقد تميز صلصال شمال أفريقيا بلونه الأحمر، واحتوائه على عناصر كلسية، وقد تضمنت آثار الفخار في قرطاج الأُرَن والجرار، الدُّمى والتماثيل، الأقنعة، القناديل، محارق البخور، القدور والقُلل، والخزف المزجج.
وقد عُثر في المدينة على أصناف عدة من منحوتات العاج والعظام وبيض النعام. كما قدّمت طبقاتها الأثرية أنواعاً هامة من المجوهرات، كالأقراط والأساور والخواتم والقلادات والميداليات والحلقات والتمائم والعقود المنوعة وأشكال الجعلان. وقد حمل بعض هذه اللقى التأثيرات المصرية والإغريقية، كما صوّر رموزاً دينية، كالثور والكبش والأفعى، والهلال والقرص، وقرص الشمس المجنح، ورموز بعض الآلهة القرطاجية، وأهمها الإلهة الأم (تانيت).
واشتهر العالم القرطاجي بالمنتجات المعدنية، كالمحالق البرونزية والنحاسية التي حملت أشكال الآلهة والنباتات والحيوانات، والمزهريات وأشكال الوجوه البشرية والمرايا والملاقط والصنجات والنواقيس وأنصال السهام. أما النقود القرطاجية، فقد بدأ سكُّها عام 410 ق.م فحملت اسم المدينة (قرت حدشت)، وكانت من الذهب والفضة والبرونز والكهرمان، وحملت على وجوهها وظهورها صور الآلهة القرطاجيين ورموز الحياة القرطاجية، من دينية ومدنية، كالحصان والنخلة والسفينة وقرص الشمس.
وقد قدّمت مدينة قرطاج آلاف الأنصاب، التي عُثر عليها خاصة في منطقة المعبد المقدس، ووظيفة هذه الأنصاب دينية نذرية قبل كل شيء، لكنها صورت طبيعة قرطاج وحياتها وتقاليدها وعاداتها من النواحي الدينية واللغوية والاجتماعية والفنية الحرفية. وقد حملت تلك الأنصاب رموزالمدينة، كرمز الإلهة تانيت، والقرص والهلال (المزدوج السماوي)، وقرص الشمس المجنح، والقيروق (صولجان هرمز)، ورمز القنّينة والكف المبسوطة المرفوعة، وزهرة اللوتس (النيلوفر)، والأشكال الهندسية والحيوانية والنباتية، كالنخيل، والسفينة والآلات الزراعية وصور الأشخاص. هذا بالإضافة إلى النقائش التي سُطرت على بعض الأنصاب باللغة الفينيقية البونية، مشيرة إلى الحياة الدينية والاجتماعية واللغوية والسياسية. ولعل أهم نقيشة قرطاجية هي تلك التي حملت عبارة (عم قرت حدشت)، أي شعب قرطاج. فالمدينة التي عرفت ضمن هيئاتها السياسية والاجتماعية (مجلس شعب)، بشهادة مؤرخين قدماء كأرسطو، أكدت ذلك على أنصابها بإمضاء شعبها كله.
حياة قرطاج
لم تكن قرطاج مدينة منسية، عبر سنيّها وخلال قرون عدة تلت نهايتها، ويرجع ذلك إلى موقعها الجغرافي والحضاري والسياسي في منطقة كانت ملتقى لحضارات أخصّها ذكراً اليونانية والرومانية.
وقد استطاعت تلك المدينة أن تحافظ على وجودها، وتصمد فترة طويلة في وجه الصراعات الدولية من أجل السيطرة على الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط، واستطاعت أن تقف في وجه التيارات الثقافية المختلفة، ففرضت وجودها كحضارة، ونشرت ثقافتها في بقاع عدة من العالم المعروف آنذاك، إلى أن انهارت كدولة وكقوة عسكرية في المنطقة بتأثير صراع طويل الأمد مع الرومان، لذا فقد كان لقرطاج حضور كبير في مؤلفات المؤرخين القدماء(3)، خاصة أولئك الذين كتبوا تواريخ لروما، أو لخّصوا أحداث العالم المهمة في كتب تاريخ شاملة، فكان منهم جغرافيون وفلاسفة وسياسيون وأدباء ودينيون، تناول جميعهم أحداث العالم القرطاجي، وأثبت معظمهم أن التاريخ يتخطّى في كل زمن دائرة الحدث المجرّد ليوظَّف في دوائر أخرى مختلفة.
عاصر الفيلسوف اليوناني أرسطو (384 ـ 322 ق.م) فترة من حياة قرطاج، ممتدحاً في مؤلفاته دستورها، وواصفاً إياه بأنه "أرقى من سائر دساتير العالم في كثير من نواحيه..."، كما اعتبر أرسطو أن القرطاجيين كانوا أفضل من غيرهم في طريقة حكمهم، إذ كان لديهم مجلس شيوخ، وقضاة، وهيئة أمن عام، ومجلس شعب.
أما المؤرخ اليوناني بوليبيوس (204 ـ 122 ق.م)، فقد تطرق في تاريخه إلى الكثير من أحداث قرطاج، خاصة مع الرومان، لا سيما وأنه كان مؤرخ روما التي ناشدت قرطاج العداء. ويأتي بوليبيوس في تاريخه على ذكر معاهدات سياسية بين قرطاج وروما، وبين القرطاجيين والمقدونيين. وجل هذه المعاهدات يتعلق بالصراع مع روما. وفي حديثه عن الحرب البونية الأولى بين الرومان والقرطاجيين (264 ـ 241 ق.م)، يقدم بوليبيوس وصفاً مثيراً للبحرية القرطاجية والبحّارة القرطاجيين، قائلاً: "لقد كانوا متفوقين في أمرين، في سرعة سفنهم وطريقة بنائها، وأيضاً في خبرة بحّاريهم ومهارتهم. وإذا طاردهم العدو فإنهم يتراجعون دون أي رد فعل أو خوف لأنهم يستطيعون الحركة برشاقة. عندها فإن العدو يسير وراءهم قُدُماً، فيلتفون حوله ويصدمون جانبه. أما السفينة الرومانية فقد كانت تواجه صعوبة في الدوران بسبب وزنها ونقص خبرة الجذّافين عليها، وقد أدى ذلك إلى غرق العديد من السفن. ويتابع بوليبيوس، في وصفه لمعركة ميسينا البحرية عام 264 ق.م، أن سفينة قرطاجية جُعلت نموذجاً لبناء أسطول روماني، وذلك حين ارتطمت باليابسة وغنمها الرومان، وبمجرد فكها بات يسيراً على النجارين الرومان اكتشاف طريقة البناء.
وينوّه الخطيب الروماني شيشرون (106 ـ 43 ق.م) بالنظام القرطاجي ومزاياه، داعماً بحثه بالقول "إن أول قاعدة في التاريخ هي عدم التجرؤ على قول الخطأ، والثانية هي الجرأة في قول كل ما هو حق".
قدّم المؤرخ الروماني سالوست (86 ـ 35 ق.م) معلومات عن نزاع حدودي حدث بين قرطاج وقورينة، إحدى المعمرات اليونانية، فأورد قصة بشأن فض النزاع تعكس مشاعر وطنية نبيلة لدى القرطاجيين، إذ ورد في القصة أن الطرفين المتنازعين (قورينة وقرطاج) اتفقا على أن ينطلق عدّاؤون من كلا البلدين لتكون الحدود المتنازع عليها عند خط لقائهم، ففاز العدّاءان الأخوان "فيلُن" من قرطاج، إلا أن قورينة طعنت بالحكم وطلبت وأد الأخوين الفائزين كشرط لتنفيذه، فقبل الأخوان ذلك فداءً لقرطاج.
ويتحدث المؤرخ اليوناني ديودورس الصقلّي (80 ـ 20 ق.م) عن نشاط قرطاج في إنشاء المستعمرات، فيذكر تأسيسها لإبيزا شرقي إسبانيا في القرن السابع ق.م، تلك المستعمرة التي أمّنت لقرطاج ميناء بين سردينيا وإسبانيا، ونفوذاً في الباليار. ويصف ديودورس المنطقة حول قرطاج بالقول: "لقد انتشرت فيها الحدائق وبساتين الشجر المثمر من كل نوع، لأن كثيراً من سواقي المياه والترع كانت قد حُفرت لتروي كل جزء، ولم تبدُ نهاية لبيوت المدينة المترفة البناء، الفخمة المطلية بالكلس الأبيض الذي عكس غنى أصحابها. الفلل كانت مليئة بما يمتع ويبهج، أثثها السكان أيام السلم،.. أما محاصيل تلك الأرض فكانت الكرمة والزيتون والفاكهة المتنوعة، وفي بقية المناطق انتشرت قطعان الماشية من الأبقار والأغنام، وفي المروج المجاورة كانت حظائر الخيل. لقد اكتنزت المنطقة ثروة ضخمة، فمعظم نبلاء قرطاج كانت لهم أملاك هناك، وإلى مواردهم يعود الفضل في ذلك. لقد كرّسوا أنفسهم لكي يستمتعوا ببهجة الحياة".
أما المؤرخ الروماني تيتوس ليفيوس (59 ق.م ـ 17 م) فيتناول في كتابه (تاريخ روما) حروب قرطاج مع روما، وسيرة القائد حنّبعل (هانيبال)، واصفاً إياه بأنه "أول من يدخل إلى المعمعة، وآخر من يخرج من الميدان"، كما يتحدث عن تشجيعه لفرقه المتقدمة عبر جبال الألب، وتمهيده أمامهم صعوبات المسير نحو روما التي ستكون في قبضتهم بعد معركة أو اثنتين.
ويذكر ليفيوس أخباراً عن علاقات تجارية بين صور وقرطاج سيقت أثناء الحديث عن لجوء حنّبعل إلى صور. ومن جهة أخرى يتحدث ليفيوس عن وجود (محكمة عدل قرطاجية).
ويقدر المؤرخ والجغرافي اليوناني سترابون (63 ق.م ـ 20 م) عدد سكان قرطاج بـ 700000 سبعمئة ألف نسمة في مطلع الحرب البونية الثالثة.
وحول أصداء معركة (كناي)، وهي أشنع كارثة مُنيت بها روما عام 216 ق.م، وأسفرت عن قتل وأسر حوالي أربعين ألفاً من الرومان على يد القرطاجيين بقيادة حنّبعل، يتحدث الشاعر الروماني يوفينال (47 ـ 130 م) بعد عدة قرون من وقوع المعركة بإشارة شعرية غير مباشرة، حين وصف عبر إحدى قصائده أحداث سباق عربات تجرها خيول في روما، إذ كانت مدرجات ميدان السباق تغص بالمتفرجين من كل الطبقات، قائلاً في قصيدته:
"اليوم يضم ميدان السباق روما بأسرها...
والهتافات تشق عنان السماء متسائلة، أفريق الخضر هو الفائز؟!
فإن ينهزم تئن المدينة كلها أنيناً موجعاً...
كأنينها بعد معركة (كناي)
ويمتلئ الفضاء بصيحات مبحوحة صادرة من أفواه المشجعين!"
وهكذا شبه الشاعر يوفينال "أنين روما" بالأنين الذي سببته معركة كناي القديمة. ومن الجدير ذكره أن المؤرخ اللاتيني أوروسيوس (القرن 4 ـ 5 م) يتحدث عن مقتل 64 ألفاً من الرومان في معركة كناي مقابل 20 ألفاً من جيش حنّبعل، ويتابع القول إن هذه المعركة أدخلت اليأس إلى نفوس الرومان، وقُتل فيها خيرة قوادهم، ولم يشك أحد أن ذلك اليوم كان يقطع ذكر الرومان وينقرض خبرهم لو أن حنّبعل بعد الغلبة مضى إلى مدينة روما وأراد فتحها.
ويصف المؤرخ اليوناني أبيانوس (القرن الثاني الميلادي) مدينة قرطاج بالقول إنها تشبه السفينة الراسية، كما يذكر أن بعض بيوتها ارتفع عن الأرض ستة طوابق، ويقدم أبيانوس معلومات هامة عن معبد من معابد قرطاج وهو معبد (أبولو) كما سماه، ويعادل الإله الفينيقي (رشف)، ذاكراً أن هيكله زُين بورق الذهب. كما يتحدث عن مرفأيْ قرطاج قائلاً إن السفن كانت تنتقل بسهولة من مرفأ إلى آخر رغم أن المرفأين اشتركا بمدخل واحد من البحر عرضه سبعون قدماً، وكان يتم إغلاقه بسلاسل من حديد. ويتابع أبيانوس: أُعدَّ المرفأ الأول للسفن التجارية، وقد استوعب المرفأ الثاني 220 سفينة بفضل جوانبه التي جهزت بأرصفة وأحواض بنيت فوقها مخازن للحبال.
وأحد الذين تحدثوا عن قرطاج القدّيس أوغستينوس (354 ـ 430 م)، وهو من أشهر آباء الكنيسة الكاثوليكية، كان أسقفاً لمدينة عنابة في الجزائر. وبعد سبعة قرون من نهاية قرطاج يتحدث عنها قائلاً: "لقد كان فيها الكثير من الأشياء التي خلدت ذكراها في عقول الناس...". ومن أهم الأشياء التي خلدت في عقول الناس، وعلى ألسنتهم، اللغة الفينيقية البونية التي استمرت حية ثمانية قرون بعد تدمير قرطاج على يد الرومان، وفي هذا الصدد يقول أوغستينوس في القرن الخامس الميلادي: "إذا سألت سكان بلد في أفريقيا من أنتم؟ يجيبون باللغة البونية إننا كنعانيون!". ومن أدلّة أوغستينوس على ثبات البونية، واستمرارها في الربوع المغاربية، رسالة منه إلى البابا سليستن، يرشح فيها رجلاً يتقن اللغة البونية لشغل منصب أسقف مدينة (فسالة)، التي مازالت البونية لغة الناس فيها آنذاك.
قرطاج المُحارِبة
الصراع القرطاجي اليوناني (580 ـ 270 ق.م)
لقد قُدِّر لقرطاج أن تواجه المنافسة اليونانية، وتسعى إلى احتوائها، ومنع الإغريق من اقتحام مناطق نفوذها، وقد كانت حريصة كل الحرص على حماية ما يمكن تسميته بالمثلث القرطاجي الاستراتيجي المكوّن من جزيرة سردينيا وغربي صقلية وقرطاج، وكم حاول الإغريق التوسع على حساب القرطاجيين في هذا المثلث، ولكن دون جدوى. واستمر الصراع اليوناني القرطاجي حتى الربع الأول من القرن الثالث ق.م، وتمكنت قرطاج خلاله من الاحتفاظ بمناطق نفوذها، وخاصة في صقلية، بل وامتد نفوذها، وباتت تندسّ في شؤون المدن اليونانية، فتساعد هذه، وتقف في وجه أخرى، وتفرض حلولها على المتخاصمين(4).
الحروب الرومانية القرطاجية (264 ـ 146 ق.م)
حين غادر آخر ملوك اليونان، بُورّوس، صقلية خائباً بعد فشله في الانقضاض على الربوع القرطاجية في الجزيرة سنة 277 ق.م، تأمّل الجزيرة قائلاً: "يا لها من ساحة وغى نتركها للقرطاجيين والرومان!". وبالفعل، فبعد مغادرة بُورّوس لصقلية اندلعت الحرب بين الرومان والقرطاجيين سنة 264 ق.م، وكانت المعارك بين الطرفين طاحنة. وآنذاك لم تستطع روما البقاء بعيدة عن شؤون صقلية بعد سيطرتها على إيطاليا، وكأن فشل الملك بُورّوس أغلق باب الجزيرة في وجه الإغريق ليفتحه أمام الرومان الذين نشأت لدى أوساطهم السياسية قناعة مفادها أن مصير بلادهم مرتبط بحضورهم في صقلية والاستئثار بها، وبالمقابل فقد كانت قرطاج تسعى إلى تأمين بقائها في صقلية وضمان أمن التجارة في المتوسط.
كانت الحرب طويلة، وقد دامت أكثر من مئة عام، مرت بمراحل ثلاث سُميت بالحروب البونية، أو الحروب الرومانية القرطاجية. أما الحرب الأولى (256 ـ 250 ق.م)، فكان رهانها صقلية، ودارت رحاها براً وبحراً في الجزيرة وفي أفريقيا، ولكن صمدت قرطاج.
ولئن تم صد جيوش الزاحفين إلى أفريقيا، إلا أن الجيوش القرطاجية انهزمت في مياه صقلية مما جرّها إلى الصلح والهدنة والتخلي عن الجزيرة، ثم الانسحاب من سردينيا وسط ظروف حرب داخلية عاشتها قرطاج، وأضرم نارها مرتزقة. إلا أن القائد القرطاجي عبد ملقرت البرقي احتوى نار الفتنة بحنكته السياسية والعسكرية. وحين خمدت الفتنة سنة 237 ق.م، صعد نجم عبد ملقرت في سماء قرطاج، ونال اقتراحه بالالتفات نحو شبه الجزيرة الإيبيرية موافقة الحكم القرطاجي، لاسيما وأن غنى الربوع الإيبيرية بالمعادن الثمينة يعوض لقرطاج ما انتزعه الرومان منها.
وبالفعل تحول عبد ملقرت البرقي سنة 237 ق.م إلى إسبانيا، مصطحباً معه صهره عزربعل وابنه حنّبعل الذي أقسم أن يبقى عدواً للرومان طيلة حياته.
ولما توفي عبد ملقرت سنة 228 ق.م خلفه صهره عزربعل الذي أسس مدينة جديدة في إسبانيا سماها قرطاج (قرطاجنة) تيمناً واعتزازاً بالمدينة الأم، وحين اغتيل هذا القائد سنة 221 ق.م، بايع الجيش حنّبعل قائداً وهو في السادسة والعشرين من عمره، وكان قد تمرّس على حياة المعسكرات والانضباط والقيادة، مما مكّنه من تأسيس جيش قوي مطواع مخلص، أثار انشغال الرومان الذين كانوا يراقبون الموقف في شبه الجزيرة الإيبيرية، وقد ثبت لديهم أن لا مندوحة من عرقلة طموح القائد الخطير حنّبعل.
وكانت المعركة الأولى بين حنّبعل والرومان في مدينة (ساجُنْت)، فحاصرها وحطّم أسوارها، مما استنفر الرومان في بلادهم التي بادرها حنّبعل بالتوجّه إليها بجيشه، فانطلق من إسبانيا إلى إيطاليا سنة 218 ق.م، وكانت ملحمة عبور جبال الألب التي أدهشت القدامى. وما إن تخطى حنّبعل الوعار وقمم الجبال الشامخة المكسوة بالثلوج حتى بادر بمهاجمة العدو الروماني مجرِّعاً إياه كؤوس الهزيمة في معارك خلّدها التاريخ كمعركة (ترازمانة) عام 217 ق.م، ومعركة (كناي) عام 216 ق.م. وبعد هذا التاريخ تباطأت الأحداث، ولم يتمكن حنّبعل من تجديد قواته العسكرية تجديداً فاعلاً.
وغيّر الرومان خططهم ونقلوا الحرب إلى إسبانيا، ثم إلى أفريقيا، وقد كُلِّف بهذه الخطة القائد شيبيون، فانتصر في إسبانيا واستولى على العاصمة البرقية قرطاجنة، ثم تحوّل إلى أفريقيا، وهناك انضم إليه الأمير النوميدي مسينسن الذي كان له دور فاعل في معركة (زاما) الحاسمة سنة 201 ق.م، والتي انتصر فيها شيبيون.
وتراجع حنّبعل واضطر لقبول معاهدة ثقيلة أملاها شيبيون، ومن بنودها أن يحتفظ القرطاجيون بأراضيهم، وتُضمن لهم حرية العيش فيها دون مضايقة، شريطة أن يعيدوا ما استولوا عليه، ويتخلوا عن أسطولهم، ويسلّموا الفيلة جميعها. ومن شروط المعاهدة ألا يدخل القرطاجيون في حرب إلا بعد الحصول على موافقة الرومان، كما تتعهد قرطاج بتموين الجيش الروماني ودفع رواتب جنوده، بالإضافة إلى ضريبة عسكرية تدفعها قرطاج قدرها عشرة آلاف تالنت فضي. إلا أن الخطير في المعاهدة هو إطلاق يد القائد النوميدي مسنسن في الربوع القرطاجية، إلى أن عيل صبر قرطاج، فتصدت له عسكرياً بعد شكاوى تقدمت بها إلى روما دون جدوى.
السنوات الأخيرة في حياة قرطاج
وهمدت قرطاج مدة خمسين عاماً بعد المعاهدة المجحفة بحقها، فالتفتت إلى تنشيط الزراعة والتجارة، وشهدت فصولاً جديدة من الازدهار أقلقت الرومان، وكان دفاعها عن أراضيها ضد أطماع النوميديين، ومواجهتها لخصمها، قد أعطى حجة لروما على قرطاج بأنها خرقت معاهدة سنة 201 ق.م، فنشبت الحرب القرطاجية الرومانية الثالثة (149 ـ 146 ق.م) بعد أن أقرّت روما العزم على وضع حد لدولة قرطاج استجابة لصراخ أحد أعضاء مجلس شيوخها كاتو، الذي قال: "لا بد من تحطيم قرطاج"!
وأسند الرومان قيادة الحرب لـ شيبيون إيمليانوس، وهو من عائلة شيبيون الذي كسب معركة زاما، فما كان أمام القرطاجيين إلا المقاومة، فخاضوا معارك طاحنة. ولما دخل شيبيون وجيشه المدينة قاموا بنهبها وتخريبها، ثم أضرموا النار فيها إلى أن انهارت وتحولت إلى رماد...(5).
هكذا بدت لنا قرطاج من التأسيس إلى النهاية، دولة عظمى في الألف الأولى ق.م، شهدت أوج ازدهارها في النصف الثاني منه، كما أن حضارتها هي أولى حضارات المتوسط الغربي في العالم القديم، نظراً لعوامل انتشارها الزمني والجغرافي، وبقاء تأثيراتها في المنطقة قروناً طويلة بعد زوال العاصمة.
وقد كانت الدولة القرطاجية شريكاً سياسياً وحضارياً في نحت معالم منطقة البحر الأبيض المتوسط، ونشوء المدنيات فيها، كما كان لها دور هام في تعزيز الروابط بين شرق المتوسط وغربه، ودعم أساسات الجسر الحضاري الذي أنشأه الفينيقيون بين مدن الشرق والغرب.
أما العالمان اليوناني والروماني، فقد كانا شريكين في محاولة القضاء على الحضارة الفينيقية في المشرق والحضارة البونية في المغرب، الأولى بقيادة الإسكندر المقدوني في أواخر القرن الرابع ق.م، والثانية بقيادة شيبيون في النصف الثاني من القرن الثاني ق.م. إلا أن سيل الدراسات لا يتوقف عن الحديث حول ثبات الحضارتين الفينيقية والبونية في العالم القديم قروناً عدة بعد ميلاد السيد المسيح.
الحواشي:
(1): حول هذا الموضوع أنظر: النقيشة رقم 4763 في: INSCRIPTIONUM SEMITICARUM, PARS PRIMA CORPUS
أما أشهر المؤرخين الكلاسيكيين الذين دوّنوا أسطورة عليسة هو المؤرخ الروماني يوستينوس (القرن الثاني الميلادي)، وتعد كتاباته مصادر غنية بالمعلومات التي تخص تاريخ قرطاج والعالم الفينيقي البوني. أنظر حوله: أوروسيوس: تاريخ العالم، الترجمة العربية القديمة، تحقيق عبد الرحمن بدوي، ط1، 1982، بيروت ص 7. وأيضاً: دوكريه فرانسواه: قرطاجة الحضارة والتاريخ، ط1، ترجمة يوسف شلب الشام، دمشق 1994، ص 42 ـ 45. وأيضاً: Moscati.S:The Phoenicians,Milan 1988,pp.42,54,171,568 وكذلك فمن المؤرخين الذين ذكروا أسطورة عليسة وتأسيس قرطاج المؤرخ اليوناني تيمايوس (القرن الثالث ق.م)، الذي اطلع على مؤلفات القرطاجيين وتميزت كتاباته بخلوّها من الطابع الأسطوري. أنظر حوله: الفرجاوي أحمد: بحوث حول العلاقات بين الشرق الفينيقي وقرطاجة، تونس 1993، ص 40، وأيضاً: غانم محمد الصغير: التوسع الفينيقي في غرب البحر المتوسط، الجزائر1979، ص74.. وعصفور محمد أبو المحاسن: المدن الفينيقية، بيروت 1981، ص64 ـ 65. وينبغي أن نسلط الضوء على أهم الدراسات التي تناولت تاريخ قرطاج، وقامت بتحليل أحداثها وأساطيرها ومعطياتها التاريخية والأثرية، وهي دراسة: فنطر محمد حسين: الحرف والصورة في عالم قرطاج، تونس 1999.
(2): حول هذا الموضوع أنظر خلايلي إبراهيم: مصادر البحث عن الحضارة الفينيقية البونية في تونس/ المصادر التاريخية، المصادر الأثرية، النقائش/ تونس 1995.
(3): حول هذا الموضوع، أنظر المرجع نفسه.
(4): أنظر فنطر، المرجع المذكور سابقاً