[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فإن علم أصول الفقه من أعظم العلوم التي تميزت بها الأمة الإسلامية، وهو علم عظيم النفع، جليل القدر، عالي الشرف، إذ هو مثار الأحكام الشرعية ومنار الفتاوى الفرعية، ووسيلة فهم النصوص الشرعية، وهو العمدة في الاجتهاد، وبه يتكون العلماء، ولتعلقه بالكتاب والسنة عُدَّ من أشرف العلوم منزلة، وربما قيل إنه أعظم العلوم نفعا([1])، وقال فيه العلاَّمة المؤرخ ابن خلدون إنه:« من أعظم العلوم الشرعية، وأجلِّها قدراً، وأكثرها فائدة»([2]).
المطلب الأول: زهد المغاربة المتقدمين في علم أصول الفقه
ومع كل هذه المكانة التي حظي بها هذا العلم؛ فقد كان لأكثر مالكية المغرب المتقدمين موقف سلبي منه، ونظرة سيئة عنه، وذلك أنهم كانوا أهل رواية للمذهب وتقليد، إذ اقتصروا على حفظ الفروع المذهبية ونقلها والحكم بها والتخريج عليها، وهذا أمر عام فيهم لم يسلم منه إلا القليل ممن مال إلى النظر والاجتهاد فكان ضحية الإقصاء والاضطهاد.
وقد قرر هذه الحقيقة التاريخية ابن عبد البر الأندلسي رحمه الله (ت:463) وهو يتحدث عن الاجتهاد واستنباط المسائل من الأصول:« وعلى هذا الناس في كل بلد إلا عندنا -كما شاء ربنا-، وعند من سلك سبيلنا من أهل المغرب، فإنهم لا يقيمون علة ولا يعرفون للقول وجها، وحسب أحدِهم أن يقول رواية لفلان ورواية لفلان، ومن خالف عندهم الرواية التي لا يقف على معناها وأصلها وصحة وجهها، فكأنه قد خالف نص الكتاب وثابت السنة، ويجيزون حمل الروايات المتضادة في الحلال والحرام، وذلك خلاف أصل مالك، وكم لهم من خلاف أصول مذهبهم مما لو ذكرناه لطال الكتاب بذكره، ولتقصيرهم عن علم أصول مذهبهم صار أحدهم إذا لقي مخالفا، ممن يقول بقول أبي حنيفة أو الشافعي أو داود بن علي، أو غيرهم من الفقهاء، وخالفه في أصل قوله بقي متحيرا، ولم يكن عنده أكثر من حكاية قول صاحبه فقال: هكذا قال فلان، وهكذا روينا، ولجأ إلى أن يذكر فضل مالك ومنزلته»([3]).
إنهم لم يعتبروا هذا العلم علما ضروريا لعزوفهم عن النظر في الدليل، ولإقصائهم للمخالفين بواسطة الحكام بدل مناظرتهم بالحجة والدليل، ومن نماذج ذلك ما حدث لأبي الفضل يوسف بن محمد المعروف بابن النحوي (ت:513)، الفقيه الأصولي المالكي الذي قال فيه ابن الأبار:« إنه كان يميل إلى النظر والاجتهاد ولا يرى التقليد»([4])، فقد دخل سجلماسة فأخذ يدرس أصول الفقه بأحد مساجدها، فمرّ عليه أحد رؤساء المدينة، وسأل عما يقرئه، فلما أخبر قال:« أرى هذا يريد أن يدخل علينا علوماً لا نعرفها، وأمر بإخراجه من المسجد، قال الراوي :"وكانوا اقتصروا على علم الرأي" يعني الفروع([5]).
ولما كان حالهم كذلك؛ فإنه لما برز ابن حزم الظاهري من المخالفين لمذهب مالك؛ أعجزهم وأربكهم وزلزل الأرض من تحت أقدامهم، لِِِما عرف به من حجة وبيان ولإحاطته بعلمي الجدل والأصول، قال القاضي عياض:« وكان لكلامه طلاوة، وقد أخذت قلوب الناس، وله تصرف في فنون تقصر عنها ألسنة فقهاء الأندلس في ذلك الوقت، لقلة استعمالهم النظر وعدم تحققهم به، فلم يكن يقوم أحد بمناظرته، فَعَلا بذلك شأنه»([6]). ولم يتمكنوا من رد الاعتبار للمذهب إلا بعد رجوع أبي الوليد الباجي من المشرق، الذي كانت له مع ابن حزم مناظرات، وقد كان أتقن علم أصول الفقه وعلم الجدل على يد الشافعية والحنفية.
وممن شهد بهذا الواقع المُر، وكان من القلَّة الذين نجاهم الله تعالى من داء التقليد بفضل رحلته المشرقية الإمام أبو بكر بن العربي المالكي (ت:543) الذي قال في وصف المنتسبين إلى المذهب من أهل الأندلس والمغرب عموما بالتقليد ومعاداة أهل النظر والاستدلال، فقال:« صار التقليد ديدنهم، والإقتداء بغيتهم، فكلما جاء أحد من المشرق بعلم، دفعوا في صدره، وحقَّروا من أمره، إلا أن يستتر عندهم بالمالكية، ويجعل ما عنده من علوم على رسم التبعية ...ثم حدثت حوادث لم يلفوها في منصوص المالكية فنظروا فيها بغير علم فتاهوا، وجعل الخلف منهم يتبع في ذلك السلف، حتى آلت الحال إلى أن لا ينظر قول مالك وكبراء أصحابه»، ثم قال :« فإن ظهر عندهم من له معرفة، أو جاءهم بفائدة في الدين وطريقة من سلف الصالحين، وسرد لهم البراهين، غمزوا جانبه وقبحوا عجائبه، وغيبوا حقه استكبارا وعتوا، وجحدوا علمه وقد استيقنته أنفسهم ظلما وعلوا، وسعوا في إخمال ذكره، وتحقير قدره، وافتعلوا عليه، وردوا كل عظيمة إليه»([7]).
وممن شهد بذلك الواقع -وربما كان ضحية من ضحاياه- ابن رشد الحفيد (ت:595) حيث قال ناقدا المنتسبين إلى الفقه في زمانه:« ولأنَّ ههنا طائفة تشبه العوام من جهة والمجتهدين من جهة، وهم المُسمَّون في زماننا هذا أكثر ذلك بالفقهاء، فينبغي أن ننظر في أي الصنفين أولى أن نلحقهم. وهو ظاهر من أمرهم أن مرتبتهم مرتبة العوام، وأنهم مقلدون. والفرق بين هؤلاء وبين العوام، أنهم يحفظون الآراء التي للمجتهدين فيخبرون عنها العوام، من غير أن تكون عندهم شروط الاجتهاد، فكأن مرتبتهم في ذلك مرتبة الناقلين عن المجتهدين»([8]). والقاضي أبو الوليد ابن رشد لم يمنعه الخوض في غوامض الفلسفة أن يتناول الفقه والأصول على طريقة العلماء المجتهدين، وأن يؤلف في ذلك مؤلفات لا نظير لها كبداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه والخلاف، والضروري في علم الأصول.
المطلب الثاني: كتب الأصول المعتمدة عند المغاربة قبل التلمساني
لقد ألف الباجي كتابين عظيمين في الأصول أحدهما مطول اسمه "إحكام الفصول في أحكام الأصول" ينتفع به المنتهي لما فيه من حكاية للمذاهب وحجاج، وآخر مختصر اسمه "الإشارة في معرفة الأصول" ينتفع به المبتدئ، وألَّف بعده أبو بكر ابن العربي كتابين أيضا أحدهما مطول اسمه المحصول في علم الأصول والآخر مختصر اسمه نكت المحصول، ورغم كون الإمامين الباجي وابن العربي من أفذاذ علماء المالكية وكتبهم موضوعة في توضيح الأصول التي بني عليها مذهب مالك، فإن من جاء بعدهم لم يشتغلوا بتدريس كتبهم ولا كتب غيرهم ممن هو في رتبتهما أو أقل شأنا منهما من مالكية المغرب أو المشرق ممن تقدمهم أو تأخر عنهم([9])، وآثروا في الغالب الأعم الاشتغال بكتب صنفها بعض متكلمي الشافعية وغيرهم اشتهرت في المشرق فبلغ صداها المغرب، فأصبحت هذه الكتب على ما فيها من عيوب ومخالفة لأصول مالك ومذهبه هي المقررة في التدريس، ومنها المستصفى للغزالي والمعالم للرازي ومختصر ابن الحاجب.
أولا : المستصفى للغزالي (ت:505)
وكان على رأس هذه الكتب المستصفى للغزالي الذي كان أول من جلبه إلى المغرب من العلماء أبو بكر ابن العربي، وساعدت في انتشاره الدعاية الموحدية التي أيدت مذهبها في الفقه والعقيدة والسلوك بكتب أبي حامد الغزالي في أصول الفقه وأصول الدين والتصوف([10])، وكان لا يتولى القضاء في عصرهم إلا ظاهري أو متكلم على طريقة الأشعري أو على الأقل يتقن علم الأصول، الأمر الذي دعا إلى انتشار علم الأصول في المغرب بعد أن كان مرغوبا عنه ، لكن على طريقة المتكلمين لا طريقة فقهاء المالكية.
ومن مظاهر الاعتناء بكتاب الغزالي -شيخ ابن تومرت- شرحه، وممن علمناهم من شراحه محمد بن إبراهيم الفهري البجائي (ت:612)، وسهل بن محمد الأندلسي (ت:639) وسليمان بن محمد الغرناطي (ت:639) وأحمد بن محمد الإشبيلي المعروف بابن الحاج (647أو651) وأبو علي الحسين بن عبد العزيز البلنسي (ت:679) وأحمد بن محمد الغرناطي (ت:699) وأبو عبد الله العبدري (ت:737)، وسريجا بن محمد الملطي (ت:788).
ومنهم من اختصره كعلي بن أبي قنون التلمساني (ت:577) في "المقتضب الأشفى"، وابن رشد الحفيد (ت:595) في الضروري، وابن شاس (ت:610) والحسن بن رشيق (ت:632) في لباب المحصول، وعبد الله بن أحمد بن عبد السلام الإفريقي (من أهل المائة السابعة)([11]).
وممن كان يُدرس المستصفى في الأندلس عبد الله بن سليمان ابن حوط الله الحارثي (ت:612)، وفي بجاية أحمد بن خالد المالقي (ت:660) وفي مراكش أبو الوليد ابن حجاج([12]).
ثانيا : كتب الرازي (ت:606)
وبعد مدة تلاشى اعتناؤهم بالمستصفى وظهر الاعتناء بكتب الرازي المعالم وغيره، وربما كان بسبب دنو الهمة وقصور الهمم عن دراسة كتاب المستصفى، أو بسبب زوال دولة الموحدين، وقد قيل أول من أظهر كتب الرازي في الأصول بتونس بتدريسه لها هو أبو القاسم بن أبي بكر بن زيتون (ت:691)([13]). وذكر أبو زيد ابن الإمام التلمساني أن أبا العباس الغماري (ت بتونس:682) وهو من أدخل كتاب المعالم إلى المغرب وبسبب ما قفل به من الفوائد رحل ابن زيتون، وقد قرأ أحمد الغبريني على هذا الأخير المعالم للرازي، وقال إنه كان لا يرى للفخر نظيرا، وكان يؤثر قراءة كتبه على غيرها من كتب المتقدمين والمتأخرين([14]).
وممن شرح المعالم تأليفا أحمد بن عبد الله بن عميرة البلنسي (ت:658)، وشرح آخرون كتاب الحاصل للأرموي المختصر من محصول الرازي منهم محمد بن محمد التونسي (ت:726) ومحمد بن عبد الله بن راشد التونسي (ت:736)([15]).
ثالثا : مختصر ابن الحاجب (ت:646)
ومن الكتب التي سيطرت على الدرس الأصولي في عصر الانحطاط عند المالكية والمغاربة على وجه الخصوص؛ مختصر ابن الحاجب الذي اعتصره من مختصر استمد مادته من الإحكام للآمدي، فقد اعتنوا به كما اعتنوا بمختصره الفرعي، ولعل بعضهم فضَّل هذه الكتاب لاختصاره، أو لكون مؤلفه مالكيا مع أنه ليس فيه شيء من أصول المالكية، وقد بدأ انتشار هذا الكتاب في عصر قريب من عصر التلمساني حيث نجد شيخه محمد بن إبراهيم الآبلي (ت:757) يدرس هذا الكتاب في بجاية، كما نجد التلمساني نفسه يدرسه([16]).
وممن ألف له شرحا من المغاربة من أقران التلمساني وأقران شيوخه: محمد بن محمد السفاقسي (ت:744)، وأحمد بن إدريس البجائي (ت:760)، ويحيى بن موسى الرهوني (ت:774)([17]).
المطلب الثالث : ظهور أبي عبد الله محمد بن أحمد الشريف التلمساني (771)
وفي القرن الثامن برز علم من أعلام الغرب الإسلامي في تلمسان، عُرف بالشريف أبي عبد الله التلمساني جمع الفنون وأتقنها، وبلغ رتبة الاجتهاد وأعملها، فقد كان رحمه الله فقيها مالكيا متحررا وأصوليا مجددا، ومفسرا معتنيا بالقرآن وعلومه، وكان محدثا معتنيا بالرواية والدراية، وكان لغويا أديبا بليغا، ومشاركا في العلوم العقلية والتاريخية وغيرها، حتى قال تلميذه يحيى بن خلدون :« لا يعزب عن علمه فن عقلي ولا نقلي إلا وقد أحاط به»([18]).
لقد فاق الشريف التلمساني أقرانه في كل باب حتى قال فيه ابن مرزوق الحفيد إنه:« أعلم أهل وقته بإجماع»، وقال تلميذه السراج:« بلغ رتبة الاجتهاد أو كاد، بل هو أحد العلماء الراسخين وآخر الأئمة المجتهدين»([19]).
وممن شهد له ببلوغ هذه الرتبة الونشريسي صاحب المعيار :« وكان آخر الأئمة المجتهدين، نسيج وحده فريد عصره في كل طريقة، انتهت إليه إمامة المالكية بالمغرب، وضربت إليه آباط الإبل شرقا وغربا؛ فهو علم علمائها ورافع لوائها، فحييت به السنة وماتت به البدعة وأظهر من العلم ما بهر به العقول»([20]).
ومن دلائل تفوق هذا الإمام وخروجه عن المعهود في بلاد المغرب في ميدان الفقه وأصوله : ذلك التأليف الذي قل له نظير في علم أصول الفقه ذي الطريقة المبتكرة والمنهجية الفريدة والمسمى "بمفتاح الوصول في بناء الفروع على الأصول"، وما ضمنه من ترجيحات أصولية واختيارات فقهية.
وهو رحمه الله تعالى قد تلقى هذا العلم عن مشايخ برزوا فيه كأبي زيد عبد الرحمن ابن الإمام (ت 753) وأبي موسى عيسى ابن الإمام (ت:750) وأبي عبد الله الآبلي (ت:757) وابن عبد السلام التونسي (ت:749) وأبي موسى عمران المشدالي (ت:745)، فقد أشير في تراجمهم إلى تمكنهم من علم الأصول أو العلوم العقلية التي كان يعد منها علم الأصول، وإلى تفننهم في الجدل وهو من فروع علم الأصول، وأمكن هؤلاء أبو زيد وأبو موسى؛ وقد قال فيهما المقري:« كانا يذهبان إلى الاجتهاد ويتركان التقليد»([21]).
وإن عدم تأليفهم في علم الأصول لا ينقص من مكانتهم ولا يكون دليلا على عدم تمكنهم منه، بل الذي يظهر من تراجمهم وثتاء العلماء عليهم أنهم كانوا أمكن ممن اقتصر في هذا الفن على إتقان مختصر لا يتعداه ثم يؤلف عليه الشروح ويضع على شروحه الحواشي، هذا وإن كانوا في مجال مقررات التدريس فيما يظهر على سنن من قبلهم يعتمدون الكتب التي تداولها المغاربة في هذا الفن، كالمستصفى ومختصره لابن رشد ومعالم الرازي، ومختصر ابن الحاجب وسبق أن الآبلي كان يدرسه، والتنقيح وقد نقل إلينا أن أبا زيد ابن الإمام كان يدرسه([22])، والظاهر أنهم كانوا يدرسون كتبا أخرى غير الكتب التي تواطأ عليها الناس، ويدل على ذلك أن التلمساني نفسه كان يدرس -إضافة إلى كتبه ومختصر ابن الحاجب- شفاءَ الغليل للغزالي والمقترح في الجدل للبروي([23])، وهو لا يدرس كتابا إلا إذا كان أخذه عن شيوخه كما جرت بذلك عادة أهل العلم.
إن الشريف التلمساني قد خرج عن ذلك التقليد العلمي الذي جرى عليه الناس، حيث كانوا يقتصرون على تدريس الكتب المقررة دون غيرها، فإن كان لأحدهم تأليف فلا بد أن يكون شرحا أو حاشية على كتاب مقرر أو مختصرا له، إنَّ نفس التلمساني قد سمت وهمته عَلت فخرج عن معهود التآليف عند المتأخرين إلى التأليف المبتكر الذي لا يتعلق بكتاب سابق، فوضع لنا هذا الكتاب الذي لم يؤلف قبله ولا بعده مثله من حيث المقصد والشكل والمضمون، فكان مفخرة من مفاخر المالكية وأهل المغرب.
ومؤلفات الشيخ رحمه الله تعالى مع قلتها فهي فريدة في بابها مثلها مثل مؤلفات تلميذه أبي إسحاق الشاطبي، وقلَّة تأليفه مرجعها إلى أمرين اثنين، أحدهما ما كان يبثه شيخه الآبلي من أن كثرة التآليف في الفنون عائقة عن التعليم([24])والثاني تفرغه التام للتدريس والإقراء، الذي كان من ثماره أن تخرج عليه فحول العلماء في ذلك الزمان؛ كالشاطبي وعبد الرحمن بن خلدون وأخيه يحيى وابن قنفذ القسنطيني ولسان الدين ابن الخطيب وأبي سعيد بن لب وابن السكاك وابن زمرك الوزير، إضافة إلى ولديه عبد الله وعبد الرحمن وغيرهم.
المطلب الرابع : النظرة التجديدية للشريف التلمساني من خلال المفتاح
لقد زعمت أن التلمساني -في المفتاح- كان مجددا في الأصول من خلال من حيث المقصد والشكل والمضمون، ولكي تبرز لنا جليا مظاهر التجديد في كتابه نعقد مقارنة بين خصائصه وخصائص الكتب التي كانت تدرس في تلمسان في ذلك الزمان والذي قبله وهي المستصفى للغزالي ومختصر ابن الحاجب والمعالم للرازي ونحوها.
أولا : التمثيل للقواعد الأصولية
وهذا هو الركن الذي بني عليه الكتاب، وهو ما رفع قدره وجعله مميزا عن غيره من المؤلفات المنتشرة في زمانه، حيث غلب التجريد والنظرية على كتب المتكلمين سواء التي كانت تدرس في تلمسان أو غيرها، فلا تكاد تجد فيها المثال الفقهي الذي يصور لك القضية الأصولية، ولا التفريع الذي يوضح لك تطبيق القاعدة أو ثمرة الخلاف فيها، حتى أن المعاصرين قد جعلوا هذا النوع من التأليف فنا خاصا لقَّبوه بعلم تخريج الفروع على الأصول، ولا شك أن الطريقة التي سار عليها التلمساني هي الطريقة المجدية الموصلة إلى غاية العلم والمفيدة في تربية ملكة الاجتهاد، وهي طريقة المتقدمين من الأصوليين كما نجده في الرسالة للشافعي وفصول الجصاص وإحكام ابن حزم وقواطع ابن السمعاني.
ثانيا : الاقتصار على المسائل المهمة
ومن خصائص هذا الكتاب اقتصاره على المسائل المهمة، وهي المسائل المفيدة في الفقه فعلا، دون المسائل الفرضية والمسائل الكلامية وغيرها من المسائل التي أقحمها المتكلمون في أصول الفقه من غير أن يكون لها أثر مباشر فيه، ولعل التزام بناء الفروع على الأصول في الكتاب هو ما ساقه إلى هذه النتيجة الحتمية والإيجابية.
وهذه الخاصية قد صارت بعد أن قررها وشهرها تلميذه الشاطبي في مقدمة كتابه الموافقات؛ من أهم قواعد التجديد الأصولي التي يسعى إليها الباحثون في هذا الزمان.
ثالثا : الاقتصاد في الاستدلال للقواعد
ومما يلاحظ على الكتاب أنه في المسائل الأصولية الخلافية يذكر الحجج من غير إكثار أو استقصاء لها، على أنه لم يلتزم ذلك في كل مسألة، وقد كان من مقتضى اقتصاده في الاستدلال إقصاؤه لكل جدل عقلي، مما أضفى على الكتاب سهولة في العبارات وجلاء في المعاني، وهو مع إيجازه سليم التراكيب وغير مخل بالبلاغة، وليس كما هو شأن المختصرات الموغلة في الإيجاز إلى حد الإلغاز المخل بقواعد اللسان العربي.
رابعا : التحرر في التعاريف عن المناقشات المنطقية
مما يلاحظ على الكتاب استقلاله في اختيار عبارات التعاريف([25])، ووضوح الألفاظ المستعملة فيها، والحرص على بيان المعنى دون التزام قواعد الحد المنطقي التي أصبحت حاكمة على كتب الفن عند المتأخرين، ومناقشاته العقيمة التي صارت ميزة من ميزاتها.
وإن إعراض التلمساني عن الجدل العقلي وعن إعمال قواعد المنطق في الاستدلال أو الحدود ليس ناشئا عن تقصير في الجدل أو عدم إتقان لفن المنطق، فقد كان المبرزين في العلوم العقلية، ومن أساطين علم المنطق والمصنفين فيه، بل ربما كان ذلك ناشئا عن تمكنه منها وبلوغه الغاية فيها ويقينه بأنها لا تفيد في علوم الشريعة، وإننا نجد هذا السلوك بعينه عند ابن رشد الذي كان في العلوم المنطقية والعقلية أمكن من الغزالي وأكثر توغلا فيها، لكنه لما اختصر المستصفى حذف كل تلك المسائل والاستدلالات والمناقشات، وقال:« فلنترك كل شيء إلى موضعه، فإن من رام أن يتعلم أشياء أكثر من واحد في وقت واحد لم يمكنه أن يتعلم ولا واحدا منها»([26]).
ولقد كانت هذه الفكرة فيما يظهر منتشرة في ذلك الزمن عند كثير من الأصوليين، فأحمد بن خالد المالقي (ت:660) أصولي وصف بتحمل أصول الفقه على طريقة الأئمة المتقدمين، وأنه كان ينتقد طريقة الرازي، ويرى فيها تخليطا من جهة إدخال الطرق المنطقية مع أنه كان من المتعاطين للفلسفة، وكذلك عبد المجيد بن أبي البركات الصدفي الطرابلسي (ت-68) أصولي وصف بالسير على طريقة الأقدمين، وأنه لا يرى طريقة المتأخرين الرازي ومن تبعه، وكان ينكر إقحام مسائل المنطق وطرائقه فيه([27]).
خامسا : الإبداع في الترتيب
إن التلمساني رحمه الله تعالى فيما يظهر قد وُفِّق إلى حد بعيد في الترتيب البديع التي اختاره لكتابه، وإنه لترتيب يُنبئ عن فهم عميق للمسائل الأصولية وهضم لها وإحاطة بها، فقد أمكنه أن يقدم لنا مسائل الكتاب في صورة مخطط كبير يعبر عن خلاصة علم الأصول، يسهل لنا الفهم أولا والاهتداء إلى المسائل في الكتاب ثانيا، ولا شك أنه بقدر اتضاح صورة العلم في ذهن العالم بقدر ما تكون له القدرة على التعبير عنه وعلى الإبداع في طريقة عرضه.
على أن غيره من الأصوليين وخاصة المتكلمين –ومنهم الغزالي-قد حاولوا الوصول إلى هذه الغاية، لكنهم لم يوفقوا التوفيق الذي وفق إليه التلمساني رحمه الله، بل منهم من كان ترتيبه المعقد عائقا في طريق فهم مقاصد الكتاب والوصول إلى مسائله كأبي الحسين البصري وأبي الحسن الآمدي .
سادسا : نقل مذاهب الأئمة الأربعة والاستقلال في الترجيح
ومن خصائص المفتاح أن مؤلفه رحمه الله تعالى قد ربط مسائله بمذاهب الأئمة الأربعة، خلافا لكتب المتكلمين التي كانت تركز على الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة، حتى أهمل أصحابها نقل آراء أئمة المذاهب وأتباعهم إهمالا كليا.
كما أن للتلمساني عدة اختيارات أصولية في هذا الكتاب تدل على نظره المستقل عن المذهب الفقهي المالكي وكذا المذهب العقدي الأشعري، وهذه آفة قل من يسلم منها من المؤلفين في الأصول، ومن ذلك أنه في مسألة رجوع الاستثناء إذا تعقب جملا هل يرجع إلى أقرب مذكور كما هو مذهب الحنفية أو إلى جميعها كما هو مذهب الجمهور؟ قال:"والحق أنه مجمل لا يترجح فيه أحد الأمرين إلا من خارج"(المفتاح:399)، وتفصيله في مسألة أفعال النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:« والتحقيق أنه إن ظهر قصد القربة إلى الله فهو مندوب، لأن قصد القربة فيه يوضح رجحان فعله على تركه، والزيادة على ذلك منتفية بالأصل، وذلك معنى الندب، وإن لم يظهر منه قصد القربة ففعله ذلك محمول على الإباحة لأن صدوره منه دليل على الإذن فيه ن والزيادة على ذلك منتفية بالأصل وذلك معنى الإباحة»(المفتاح:427).
ومن المواضع التي خالف فيها الآراء المبنية على العقيدة الأشعرية إثباته لصيغ الأمر والنهي والعموم، وقوله بعد أن ذكر معاني صيغة "افعل" في اللغة:« وهو مجاز في هذه المعاني وحقيقة في الأمر باتفاق» وكذلك صنع في صيغة لا تفعل قال:« وهي حقيقة في النهي إجماعا»(المفتاح:283)، وهم يزعمون أن افعل حقيقة في كل تلك المعاني المذكور وصيغة "لا تفعل" كذلك، فلم يكتف بمخالفة الأشاعرة حتى نقل الاتفاق على خلاف قولهم. وناقش قضية الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده بعيدا عن البناء الأشعري على أن الكلام معنى قائم بالنفس(المفتاح:308-311)، وكذلك أثبت الحقيقة الشرعية ورجحها على الحقيقة اللغوية(المفتاح:354-355).
المطلب الخامس : اجتهادات التلمساني الفقهية
إن الذي لا ينبغي أن يُشكَّ فيه أن الشريف التلمساني كان مجددا في الأصول ومنهجيةِ تعليمه، مستقلا في آرائه واختياراته فيه، وقد كان لذلك انعكاس واضح على اختياراته الفقهية، بحيث خرج بلا خلاف عن درجة التقليد والنقل المحض للمذهب إلى درجة الاجتهاد كما سبق نقل شهادات المترجمين له، وبقي تحديد درجة الاجتهاد الذي بلغه، وذلك أن قرينه ابن مرزوق الخطيب(الجد) قد شهد له ببلوغ رتبة الاجتهاد في المذهب([28])، وهي رتبة تعني النظر والترجيح بين الأقوال داخل المذهب بما يوافق أصول الإمام المتبع، وهي رتبة قاصرة عن رتبة الاجتهاد المطلق التي تعني التمكن من النظر والإفادة من الآراء الخارجة عن المذهب والترجيح بناء على الأدلة.
والفتاوى المنقولة عنه تدل على ممارسته لهذا النوع الثاني من الاجتهاد([29])، والعلوم التي أتقنها وبرع فيها وعلى رأسها أصول الفقه تؤهله على هذه الرتبة، وخاصة علم أصول الفقه وعلم الخلاف أو الفقه المقارن كما يعبر عنه في العصر الحاضر، وقد قال ابن خلدون:« وكانت له اليد الطولى في الخلافيات»([30])، بل إن التلسماني نفسه صرح في موضع بأن النقل المذهبي ليس من دأبه([31]).
ومما يؤثر عنه ويدل على تبحره في فقه الدليل أنه لما كان بفاس أيام حكم بني مرين لتلمسان ذكر بعض فقهائها للسلطان أبي عنان أن التلمساني غير متبحر في الفقه، فبعث السلطان للفقهاء ليختبره بحضرتهم، وأمره بقراءة حديث:« إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم»، فأخذ يتكلم في فقهه بلا انتظار وكان أول ما قال :"في هذا الحديث خمس وعشرون فرقا" فسردها، ثم شرح وجه أخذها من الحديث مع بيان الراجح فيها وكأنه يمليها من كتاب ، ثم أقبل السلطان على من طعن فيه وقال :"هذا الذي قلتم إنه قاصر في الفقه "([32]).
وفيما يأتي سرد بعض الاختيارات التي خرج فيها عن المشهور في المذهب من خلال كتابه المفتاح:
1-ترجيح مذهب ابن حبيب في عدم قضاء الصلاة لمن تركها متعمدا، وذلك اعتمادا على القاعدة الأولية القاضية بأن الأمر بالأداء ليس أمرا بالقضاء (المفتاح:304-306).
2-ترجيح مذهب أشهب في صلاة فاقد الطهورين أنها تجزئ ولا تجب الإعادة، بناء على قاعدة أن الأمر بالشيء يقتضي الإجزاء (المفتاح:302).
3-ترجيح مذهب المدنيين من أصحاب مالك في تحريم أكل السباع –وهو مذهب جمهور الفقهاء – خلافا للمشهور عند المالكية من القول بالكراهة فحسب (المفتاح:362).
4-ترجيحه بأن الزنا يوجب التحريم بالمصاهرة كالنكاح الصحيح وهو رواية عن مالك –ومذهب أبي حنيفة وأحمد-وخلافا للمشهور عن مالك تغليبا للمعنى اللغوي للنكاح على المعنى الشرعي في قوله تعالى : (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا) (النساء/22) بقرينة قوله : (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) لأن العرب في الجاهلية كانوا يخلفون آباءهم في الوطء لا في العقد، لأن الفاحشة الوطء لا العقد (المفتاح:387).
والملاحظ أن ترجيحه في هذه المسائل -وإن كان داخل المذهب- كان بناء على قواعد أصولية عامة، وليس بناء على ما هو مناسب لقواعد المذهب الفقهية كما هو شأن المجتهدين في المذهب