تطور التراجم والسير و خصائصهما:
يبدو الأدب العربي بتنوع فنونه من رسالة إلى مقالة إلى قصة أو مسرحية مثل حديقة غناء توزعت على بساطها الأخضر الجميل ورود وأزهار عطرة تضفي على المكان بهجة وخيالا . من بين الفنون التي عطرت ساحة الأدب العربي : التراجم والسير –
الترجمة : فن من الفنون الأدبية التي تتناول التعريف بحياة علم من الأعلام له باع ( شهرة ) في مجال العلم أو الأدب والسياسة ... وذلك بذكر اسمه وكنيته ومولده ونسبه وتعلمه وعوامل نبوغه واهم أعماله ومواقفه ثم وفاته وآثاره .
–أما السيرة فهي : عبارة عن ترجمة مطولة لا تختلف عنها إلا بسبب إمعانها في الطول . مثل سيرة الرسول( صلى الله عليه وسلم ) لابن هشام .
–من المعلوم أن فن التراجم والسير فن عالمي معروف في جميع ثقافات العالم . وللعرب فيه إسهام كبير فقد اغرم العرب قديما بمعرفة الأنساب وتتبع أخبار الوجهاء والعظماء والملوك. فقد نشا عندهم بفضل الحاجة وليس بفعل التأثر بالأمم الأخرى فتوسع رقعة الدولة الإسلامية والنهضة العلمية والأدبية مست جميع النواحي الفكرية كان لزاما على الأمة العربية أن تؤرخ لأمجادها ومآثرها مما جعل الكتاب يهتمون بالسير والتراجم التي تسجل حيوات أعلام الأمة وانصب اهتمامهم الأول على الدين الجديد بكل ما يحيط به من أحداث وأشخاص .
لا عجب في أن تستقطب الرسالة الخاتمة اهتمام العلماء فتصدى بعضهم لتفسير القران الكريم وبعضهم لاستنباط أصول الفقه وآخرون لرواية الحديث وبعضهم لمعرفة رواته أما فئة من العلماء فقد عكفت على تتبع حياة الرسول( صلى الله عليه وسلم ) وكانت أول سيرة هي سيرة عبد الملك بن هشام التوفي سنة 213ه المسماة ( بسيرة الرسول ) ثم تلتها سيرة ابن سعد المسماة (الطبقات الكبرى ) وفي القرن الثالث الهجري ألف احد بن الداية سيرة (احمد بن طولون ) . وفي مطلع القرن الخامس الهجري صنف أبو النصر العتبي المتوفى سنة 420ه كتابا في سيرة السلطان محمود الغز نوي الذي نشر راية الإسلام في الهند سماه ( اليميني ) وفي القرن السادس الهجري وضع ابن الجوزي سير عدة عظماء مثل: عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز .واحمد بن حنبل . –وقد فاق اهتمام العرب بهذا الفن غيرهم من الأمم الأخرى . فقد ألفوا عن الشعراء والأدباء والفقهاء والمفسرين والمحدثين والقضاة والنحاة والفلاسفة والأطباء . فكتب ابن قتيبة *الشعر والشعراء * ترجم فيه لنحو 206 شاعر ممن يعرفهم جل أهل الأدب ويقع الاحتجاج بأشعارهم في النحو وغيره. وكتاب* طبقات فحول الشعراء * لابن سلام الجمحي وكتاب * الأغاني *للأصفهاني و*يتيمة الدهر* للثعالبي و*صبح الأعشى* للقلقشندى . - - تختلف التراجم من حيث الطول والقصر الأسباب منها : ثقافة المترجم. وأهمية المترجم له وغزارة المادة المتصلة به . ف* ياقوت الحموي * ترجم في كتابه *معجم الأدباء *لحياة أسامة بن منقذ الأمير المجاهد في ستين صفحة وترجم للبعض الآخر في اسطر معدودة .
– وقد دعا السخاوي في كتابه *الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ *إلى تحري الموضوعية والبعد عن الهوى والتزام العدل والإنصاف .كما ألفوا في تاريخ وفيات الأعيان والمشاهير مثل *وفيات الأعيان* لابن خلكان . وهذه التراجم لا تسير على نمط واحد فلكل مؤلف طريقته . واغلبهم رتب الأعلام حسب حروف المعجم .ازدهرت التراجم والسير من القرن الثاني إلى القرن العاشر الهجري .ثم عرفت مرحلة من الركود في عصر الضعف .
– وكانت السير والتراجم القديمة تفتقر إلى منهجية دقيقة لكنها تتوفر على أهم شروط الكتابة التاريخية .مثل التزام الموضوعية في نقل الأخبار . والتقيد بالحقيقة تقيدا صارما. والبعد عن الهوى .ومعارضة الروايات بعضها ببعض .وقد كان كتاب التراجم والسير في بادئ الأمر يذكرون أسانيد إخبارهم ومصادرها وفيما بعد أسقطوها مراعاة للاختصار ووصلا لحوادث التاريخ . –في العصر الحديث
ومع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ظهرت طائفة من الأدباء الأفذاذ حملت على عاتقها تطوير هذا الفن خاصة عندما وقع الاحتكاك مع الغرب وحدثت ثورة شاملة في شتى العلوم والفنون .فأخرجوه من دهاليز الانحطاط إلى نور الحداثة والتطور .فأصبح فنا راقيا يتجاوب وأذواق الناس ليس مجرد نقل للأخبار في غير تبويب ولا تنسيق .
في هذا العصر عادت التراجم والسير القديمة تعرض من جديد في أشكال أنيقة مناسبة للعصر .حيث عمد الأدباء إلى تحليل نفسيات العظماء والأعلام بحثا عن جوانب العظمة فيها بالاستعانة بعلم النفس وعلم الاجتماع . والتزام التسلسل التاريخي . وعرض الأخبار المتناقضة على التمحيص العلمي والمنطق . مالت اللغة إلى السهولة والوضوح ولم تعد صعبة مستغلقة . وعادت السير والتراجم القديمة تبعث من جديد في حلل جديدة وأطباق شهية محللة وفق ما توصلت إليه العلوم الحديثة لتسليط الضوء على الجوانب الخفية من حياة المترجم له . كما فعل *المازني *في كتابه* حصاد الهشيم *عندما حلل شخصية ابن الرومي والمتنبي وفق آخر نظريات علم النفس . وقد تجسد هذا الاتجاه في السير المؤلفة في الثلث الثاني من القرن العشرين حيث كتب العقاد *عبقرية محمد*(ّ ص) وعبقرية عمر بن الخطاب وعبقرية خالد بن الوليد وكتب طه حسين* على هامش السيرة *ومرآة الإسلام * الفتنة الكبرى * حيث استمدوا حقائق التاريخ من المصادر القديمة والمراجع العتيقة .ونوعوا في عرض بضائعهم وبينوا اثر البيئة في هذه الشخصيات وتأثيرها فيما يحيط بها . كما كتب ابن باديس * عبادة بن الصامت * وأبو ذر الغفاري *وهند بنت عتبة *
بالإضافة إلى التراجم الغيرية فقد كتب بعض الأدباء تراجمهم الذاتية مثل احمد أمين في كتابه *حيلتي * وطه حسين في *الأيام *والعقاد في الكتاب الذي سماه *أنا *وكان للعرب قديما محاولات في الترجمة الذاتية إذ كتب عبد الرحمن بن خلدون ترجمة موجزة لحياته في آخر فصل من كتابه المقدمة .
– خصائص الترجمة والسيرة .
1 إيراد الأحداث وفق التسلسل الزمني الاعتماد على المصادر القديمة .
2 نقد الأخبار بعرضها على العقل .
3 عرض الروايات المختلفة إن وجدت .
4 الاعتماد على التحليل النفسي لتفسير المواقف والتصرفات .
5 وبط تصرفات الأشخاص بمحيطهم الاجتماعي والسياسي .
6 اعتماد الأسلوب القصصي مثل طه حسين . مع تحري الموضوعية وتغليب العقل على العاطفة .
–انتشار التراجم والسير لدى امة من الأمم دليل على اهتمامها بتاريخها وأمجادها وبرهان على تمسكها باصالتها ورغبتها في بناء مستقبلها دون التنازل عن شخصيتها التي انصهرت عبر العصور .* من أرخ لمؤمن كأنما أحياه * وما غزارة إنتاجنا في التراجم والسير إلا دليل على روح التحدي والصمود عند امتنا العربية رغم الداء والأعداء ومحاولات التضليل والغزو الفكري .