المدرسة والسلوك المدني
مقدمة :
يكتسي التفكير في موضوع السلوك المدني أهمية كبرى بالنظر لعلاقته العضويةبمنظومات القيم من جهة، وبتطور المجتمعات وبدرجات الوعي بمكانة الأفرادوموقع المؤسسات داخلها، وبنوعية العلاقات التي تربط فيما بينهم من جهةثانية.
كما تعبر تنمية السلوك المدني عن الحاجة إلى ترسيخ علاقة واضحة وواعيةفيما بين الأفراد وبينهم وبين مؤسسات المجتمع ومؤسسات الدولة، تنبني علىاحترام الحقوق والواجبات الدينية والقانونية والأخلاقية ...
ولا شك أن هذا الموضوع يستمد وجاهته بالنظر إلى عوامل أساسية :
عامل كوني يتجلى في تطور المجتمعات والحضارات الإنسانية، والوعي المتزايد بأهمية الإنسان كقيمة في حد ذاته؛
عامل محلي يظهر في التحول الاجتماعي الذي أفرزه التطور التاريخي للمجتمع المغربي؛
عامل تربوي يتجلى في دور وأهمية مؤسسات التربية والتكوين في تنمية السلوك المدني كمؤشر على الوعي بالحقوق والواجبات.
وباعتبار أهمية وفعالية القيم في التغيرات والتحولات التي تشهدهاالمجتمعات في مسار تاريخها الاجتماعي، فإن الاهتمام بموضوع السلوك المدنييشكل لحظة تأمل ضرورية تستدعي معرفة ملامح ومظاهر التحول الاجتماعي الذييعيشه المجتمع المغربي، كما تستحضر نوعية التغير الذي يطال منظومة القيمفيه، وذلك بالعلاقة مع التحولات الكاسحة التي يعرفها العالم على مستوىالقيم والأنظمة المرجعية الثقافية والاجتماعية، وفي أفق بناء الإنسانالمواطن الذي عليه تنمية الوطن وتحقيق نهضته.
1. دلالات المفهوم وتجلياته :
1.1. من التعدد الدلالي إلى محاولة التحديد الإجرائي
يندرج مفهوم "السلوك المدني" في شبكة مفاهيمية واسعة، تتداخل فيها المعانيوتتعدد الدلالات، وإذا كان هذا المفهوم بمكونيه: السلوك والمدنية يحيلانفي نفس الوقت إلى الأخلاق والإيتيقا، وإلى التمدن كحالة مجتمعية ترادفالتحضر؛ فإنه يستدعي، في الآن ذاته مفاهيم أخرى محورية، مثل : الديموقراطية والمواطنة والوطنية واحترام حقوق الإنسان، والمدنية، والحسالمدني والتربية المدنية، أو التربية على المواطنة أو التربية على حقوقالإنسان. لذلك تعكس المصطلحات المستعملة في مجاله الواسع، والمرادفات التييحيل عليها في أحيان كثيرة؛ تطورا تاريخيا وسياسيا للمجتمع، وكذا تحولا فيالقيم الأخلاقية والإنسانية؛ فإذا كان الحس المدني مثلا يعبر عن الفضائلالضرورية للسلوك الفردي والجماعي، فإن التربية على المواطنة تهدف إلىتحديد وفهم العلاقات القانونية التي تضبطها قوانين وتشريعات الدولة، بينماتسعى التربية على حقوق الإنسان إلى التعلق بالقيم الكونية للإنسانيةجمعاء. وهكذا فإن أي مصطلح من المصطلحات المذكورة له معناه وهدفه الخاصوسياقه التاريخي.
هناك إذن معنيان يعكسان تطور المفهوم :
معنى عام يشمل واجبات المواطن(ة) ومسؤولياته في علاقته بالدولة من جهة، وبالمواطنين من جهة ثانية ؛
ومعنى خاص يحدد الفضائل الضرورية الواجبة في تنشئة المواطن(ة) الصالح، المتمتع بالحس المدني والانضباط والإخلاص للمجموعة الوطنية
إن هذه المعاني التي ارتبطت بتطور المفهوم في الثقافات الغربية اليونانيةواللاتينية والمعاصرة، تظهر بوضوح في مفهوم التربية في الثقافة العربيةوفي التراث الإسلامي الديني والفكري. فهي تعني التأديب من جهة، والتهذيبمن جهة ثانية. فالتأديب هو توجيه الطفل(ة) نحو الانضباط والانتظام، أيتلقينه قواعد الضبط الأخلاقي الاجتماعي، أما التهذيب فغايته طبع النفسالبشرية بالفضائل الدينية والأخلاقية، وهي فضائل أخلاقية وعقلية في نفسالوقت. فغاية التربية الإسلامية هي توجيه السلوك الفردي من جهة، وتنظيمالحياة الاجتماعية من جهة ثانية.
إن هذا التعدد الدلالي الذي يرتبط بمفهوم تنمية السلوك المدني، والذي يحيلإلى حقول واسعة مثل القانون والأخلاق وقواعد السلوك وأنماط التربية، بقدرما يغنى تحديد المفهوم نظريا بقدر ما يجعل تحديده على صعيد الممارسة صعباوغير يسير. إلا أن هناك مجموعة من التحديدات الأولية تمكن من تشخيص هذاالمفهوم في عمليات أساسية لها بعدها التربوي مثل:
ترسيخ مبادئ وقيم المجتمع في انفتاحها على القيم الكونية؛
معرفة المؤسسات والقوانين والمعايير الوطنية والالتزام بقواعدها؛
فهم قواعد الحياة المجتمعية بمعناها الواسع، واكتساب حس المسؤولية الفردية والجماعية؛
الوعي بالحرية في التفكير والتعبير وفي ممارسة الحياة العامة والخاصة مع احترام حرية الآخرين؛
إعمال الفكر النقدي والدفاع عن الرأي.
وذلك مع اعتبار تأسيسها على قاعدة قبول الآخر والحق في الاختلاف عنه،وانطلاقها من المبادئ العامة لانتظام الحياة المشتركة بين الأفراد.
1.2. التجليات الأساسية للمفهوم
يتجلى مفهوم السلوك المدني أساسا في:
احترام الفرد لمبادئ ومقومات وثوابت مجتمعه ووطنه وهويته وأرضه وبيئته ؛
إدراك الفرد لوجوده كعضو داخل جماعة (الجماعة بمفهومها الواسع الحديث التي تبدأ بالأسرة وتنتهي بالمجتمع الإنساني) ؛
استحضار الوازع الأخلاقي ؛
الالتزام بالواجبات واحترام الحقوق ؛
اعتماد مبادئ العدالة والديموقراطية والإنتاجية والتضامن اجتماعيا وسياسيا وتربويا ؛
ممارسة الحرية في إطار المسؤولية ؛
احترام الأفراد والجماعة لمبادئ وقيم حقوق الإنسان ؛
المشاركة في الحياة العامة، والاهتمام بالشأن العام.
وبشكل عام تتجلى تنمية السلوك المدني في "إكساب أفراد المجتمع بطريقةعملية وفعالة مبادئ السلوك الاجتماعي في البيت والمدرسة والشارع والأماكنالعامة وعند ممارسة المهنة، وكذلك مبادئ احترام الغير وتقبل رأيه ومساعدتهوالتضامن معه وتجنب إلحاق الضرر به، وذلك بخلق ضمير اجتماعي لدى كلمواطن(ة) يستند إلى قيم التعاون والعدالة والديموقراطية وحب الوطن والغيرةعليه وتوظيف كل الطاقات لبنائه ورفعته لأداء رسالته الحضارية كجزء منالحضارة الإنسانية".
1.3. ما المقصود بتنمية السلوك المدني ؟
حين يتعلق الأمر بتنميةٍ السلوك المدني، فإن ذلك يحيل مباشرة إلى مسألتين أساسيتين :
كون هذا السلوك مكتسب عن طريق التنشئة المجتمعية، وكونه حاضر بتجلياتهومظاهره في العلاقات بين الأفراد وبينهم وبين المؤسسات: مؤسسات الدولةومؤسسات المجتمع؛
كونه كسلوك فردي واجتماعي غير مطلق وغير ثابت بل هو قابل للتطور، ومن ثم،لا بد من تنميته وفتح آفاق استثماره لترسيخ التمدن وقواعد المدنية داخلالمجتمع.
وإن الحركية بين المكتسب وبين تنميته وترسيخه، تندرج مباشرة في مجالالتربية باعتبارها تنشئة اجتماعية، وتحيل إلى مؤسسات التربية وأدوارهاالأساسية والمركزية.